نستكمل في الجزء الثاني من مقالنا الحديث عن عيوب شبكات التواصل الاجتماعي وقد ذكرنا ثلاث منها في المقال السابق، ونكمل بالآتي:
4- التزوير والتخفي الإجرامي، وهذه كبيرة كبائر الإنترنت، حيث تضع بين يدي المجرم المحترف، تقنيات متقدمة ومعقدة تبيح له إخفاء شخصيته عن ضحاياه، وتمكنه من إنجاز جريمته في وقت قياسي قصير، مقارنة بذات الوقت الذي يحتاجه لارتكاب جريمة مشابهة، دون الاستعانة بمثل تلك التقنيات. ولعل أكثر الجرائم المالية شيوعاً على الإنترنت هي عمليات غسيل الأموال، وسرقات أرقام بطاقات الائتمان المصرفية، وتصل قيم كل منهما عشرات إن لم يكن مئات المليارات من الدولارات سنوياً. لكن ما هو أسوأ من الجرائم المالية هي تلك الأخلاقية والاجتماعية، حيث تكتظ مواقع شبكات التواصل الاجتماعي بأولئك الذين ينتحلون شخصيات رجال دين، أو أطفال، ويبدؤون محادثاتهم مع أناس أبرياء يبحثون عن النصائح، أو أطفال يفتشون عن أصدقاء. وينتهي الأمر بوقوع الضحية في براثن أولئك المجرمين، الذين يصل بهم الأمر إلى خطف أولئك الأطفال السذج، وابتزاز أقاربهم من أجل استعادتهم، ولا يتورع أولئك المجرمين عن الوصول إلى القتل في حالات كثيرة.
5- الإفساد الأخلاقي، حيث تعج الإنترنت بالمواقع الإباحية التي تخاطب المراهقين ومن هم في دون سنهم من الأطفال، الذي يجدون فيها مواداً تبدأ بالتسلية، وتنتهي عند المشاهد الإباحية، المصحوبة بإرشادات تفصيلية من شأنها غرس بذرة الفساد في الأذهان، ومن ثم سلوك أولئك المراهقين والأطفال الأبرياء، الذين، وهنا يكمن الخطر الأكبر، اكتسبوا مهارات تقنية متقدمة تمكنهم من تجاوز الكثير من تلك الحواجز التي وضعتها برامج الإبحار الخاصة بأمن وسلامة المستخدم. يزداد الأمر سوءاً عندما ندرك أن مهارات الأطفال التقنية، تفوقت، لأول مرة في تاريخ الإنسان، على مهارات والديهم، ومن يكبرهم سناً، بمن في ذلك المربين والمدرسين، ومن ثم فهم، أي الأطفال والمراهقين، أنهم قادرين أيضاً، متى ما أردوا ذلك، على الالتفاف على الكثير من أشكال الرقابة المنزلية أو المدرسية، التي يتوهم من يضعها أنها مجدية.
لم تكن تلك جميع محاسن مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت، وبالقدر ذاته ليست هي القائمة الوحيدة التي تكشف مكامن القبح والسوء فيها. فهناك الكثير مما يمكن سرده في الفئتين، وهذه مسألة طبيعية في ظاهرة اجتماعية مثل الإنترنت، التي من المنطقي أن توفر ما هو مفيد ومضر على حد سواء. ولعل علامة الاستفهام الكبيرة التي تقفز إلى ذهن مستخدم الإنترنت وتلح عليه باحثة عن إجابة هي: هل الحسنات والفوائد كافية كي نترك الحبل على الغارب، أم أن الأضرار بلغت درجة من السوء تبيح القضاء على الإنترنت وقبرها؟.
واقع الأمر يقول عدم توفر أجهزة أو معدات، بل ولا حتى برمجيات قادرة على الوصول إلى درجة الإتقان المطلوبة القادرة على التمييز بين الغث والسمين، ومن ثم حجب السيئ، وعرض المفيد، والإنترنت في هذا ليست حالة استثنائية، فالكثير من اختراعات الإنسان واكتشافاته، تحمل الضدين في آن واحد، مما اضطر ذلك الإنسان، تحت إلحاح الحاجة، للمفيد أن يتعايش مع تلك الاكتشافات بشقيها المفيد والمضر. تكفي الإشارة هنا، إلى ظاهرة عالمية هي الاكتشافات الجغرافية، التي كانت في جوهرها استجابة منطقية للتطور العلمي الذي شهدته أوروبا في القرن الخامس عشر، وكان بوسعها، لو حصرت نفسها في الجانب الإيجابي المفيد بشرياً، أن تتحول إلى أفضل قناة للاتصال والتواصل بين المجتمعات البشرية، ومن ثم الاحتكاك الحضاري الذي تولد عنه، لكننا وجدنا. وعوضاً عن ذلك، وبشكل مواز لذلك، شيوع حركة الاستعمار، وما رافقها من نهب لخيرات البلدان المستكشفة “بفتح الشين”، وإمعان في التمييز العنصري القائم على العرق. وقد تم كل ذلك تحت شعارات خادعة اصطبغ فيها الديني المقدس، بالتجاري الجشع، الذي انتعشت جراثيمه، فتطور إلى نزاع بين الدول الأوروبية ذاتها، التي حكم سلوكها جشع لا نظير له من أجل السيطرة والنهب. ولم تكن الحربين الكونيتين، في جوهرهما، أكثر من تنافس على النفوذ، وصراع من أجل النهب بين تلك الدول.
لذا فالمدخل لمعالجة الظاهرة، والنجاح في تعزيز الجانب المضيء فيها، وتقليص ذلك المظلم منها، ينبغي أن ينطلق من فرضية أساسية بسيطة هي أن الإنترنت باقية، ولا يمكن قبرها، وليس من المنطق، في شيء، محاربتها من أجل وأدها. وبالتالي فلابد من وضع الأسس الصحيحة لتحقيق الفائدة القصوى من تلك المحاسن، والحد من تلك المضار من خلال الخطوات التالية:
1- نشر الوعي، على المستويين العالمي الشامل، والوطني أو الإقليمي المحدود، بتلك الفوائد والمضار على حد سواء، وتزويد الجهات ذات العلاقة، من مؤسسات عالمية ووطنية، بالمواد الإرشادية، والبرمجيات الوقائية، التي تساعد، من يشاء منها، على تحقيق ذلك الهدف، الذي يضاعف من الفوائد، ويقلص المخاطر. من الضرورة بمكان أن يتجاوز نشر الوعي هذا مجرد الوعظ، كي يصل إلى مستوى الالتزام بمقاييسه التي يدعو لها، والتقيد بأنظمتها التي يسنها.
2- عدم الاكتفاء بالبرمجيات أو الأجهزة والمعدات الواقية، على الرغم من أهمية الاستفادة منها، إذ لا بد أن يرافقها حملات متكررة ومتلاحقة، تضمن استخدامها، بعد تخفيض أثمان اقتنائها، وفي بعض الحالات تشغيلها من جانب، والتحقق من تحديثها والحصول على آخر نسخ منها من جانب آخر. للتأكد من عدم استغلالها تجارياً أولاً، والتحقق من قدرتها على متابعة تحديثات أهل السوء لبرامجهم وخدماتهم المضرة ثانياً.
3- سن القوانين، ووضع الأنظمة، الملائمة لكل ثقافة وحضارة على حدة، دون إهمال ذلك المشترك بينها، القادرة على مكافأة الملتزم بها، ومعاقبة من تسول له نفسه تجاوزها أو التحايل عليها. وما هو أهم من وضع تلك القوانين والأنظمة، هو التقيد بتطبيقها، دون محاباة أو تمييز، الذين يكمن فيهما بذرات الإفساد التي تشجع المستفيدين من المضار على المضي في غيهم، تحميهم تلك المحاباة.
4- البدء في تأهيل الأجيال القادمة، دون إهمال الحالية على اكتساب القيم والسلوكيات التي من شأنها بناء مجتمع تخيلي آمن، وعلى مستوى حضاري راق، ينشر الأخلاقيات السليمة التي يحتاجها الانتماء لذلك المجتمع. ولا بد من اللفت هنا إلى أن حجم وعدد سكان المجتمعات البشرية التي ستتكون على الإنترنت، ربما تكون أكثر تفاعلاً بين أفرادها بين تلك التقيدية، الأمر الذي يتطلب وضع تصورات بنائها في هذه المراحل المبكرة قبل أن يسبق السيف العذل.
وأهم من يتوقع أن تكون الحرب على سوء استخدام الإنترنت آنية، فهي طويلة ومستمرة، وأكثر وهما من يرى فيها معالجات بسيطة، فهي لا بد أن تكون غاية في التعقيد، وساذج من يعول على حصرها في رقعة جغرافية محدودة، فهي كونية كالإنترنت ذاتها.
لذ ينبغي التهيؤ لحرب طويلة المدى، كونية الأفق، متكررة المعارك، متطورة الأسلحة، هذا إن أردنا بناء مجتمع دولي تخيلي آمن مستقر تتعايش فيه الحضارات، وتتواصل فيه الثقافات بشكل إيجابي بناء.