تصنع الحضارات بالفكر وبالإبداع وبالحضور المتواصل في تأسيس ملامح الحداثة والابتكار والتجدد والتطور في تنمية نمط حياتنا في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، إذ لا يمكن لحضارة من الحضارات أن تستمر في الحضور بدون تفجير طاقات تفكيرها وتعبيراتها الفلسفية والإبداعية في شتى مجالات الحياة، مهما كانت درجة تطورها الاقتصادي وحضورها السياسي.
هذه الحقيقة والتي تبدو من أول وهلة بديهية، قد اختفت أو تراجعت على الأقل في وطننا العربي في العقود الأخيرة، تحت وقع عوامل عدة، واختفاؤها يشكل فاجعة تؤذن بأننا قد بدأنا نتدحرج إلى متاهات من الصعب الخروج منها.
وقد يعتقد البعض أن نهايات الأيديولوجيات الكبرى تبرر وضعنا المتردي الحالي على صعيد الفكر، وقد يرى آخرون أن العصر هو عصر اقتصاد السوق واقتصاد المعرفة الذي يستبعد منه كل ما لا يمتلك فكراً مبدعاً مجدداً، وكل من لا يكون قادراً على الإضافة المجدية في هذا السوق العالمي.
نعم، لا نشك في تحول الوضعية الثقافية التي لم تعد مؤمنة بالنظريات الكبرى الموحدة للمواقف والمنظرة للنضالات، ولم يعد هناك كلي يؤطر النظريات ويحلل الإبداعات ويشكل المنهج الأمثل لفهم صيرورة التاريخ وتجليات الحياة الفردية والاجتماعية.
نعم لقد أصاب الفكر نوع من الريبة والشك المتواصلين في الأصول والظواهر على حد السواء، لاسيما بعد “حركات الحرية” والتحرر في العالم في أواخر الستينات من القرن الماضي، “مثل حركة “الهيبيز” التي كثيراً ما اعتبرناها هامشية ولكنها غيرت مفهوم الفرد في المجتمع وقدمت للحرية تمظهراً جديداً كانت له انعكاسات كبرى، كذلك حركة مايو 1968 الطلابية في فرنسا التي لم تكن سياسية بقدر ما تجذرت في التحرر الفكري والاجتماعي والثقافي والسيكولوجي والسلوكي الفردي. ورغم أن “حركات الحرية” هذه قد كانت تواصلاً لتيارين متناقضين: تيار تحرري يناضل ضد التبوهات الاجتماعية التي تحولت إلى عائق أمام التطور، وتيار يساري، يستمد قوته من التنظير للثورة، مما مهد في الغرب إلى فتح الطريق للنضال من أجل الحرية في كل شيء مما أعاد للفرد مكانته بعد أن ابتلعه النسق الاجتماعي أو المكننة الاقتصادية والنمطيات السياسية.
أما اليوم، فإن أهم إنجازات هذا العصر المعولم هو أن الثقافة فيه قد تحولت إلى بديل عن الأيديولوجيات الكليانية، إلا أن التحدي الأكثر أهمية والذي فرضته الوقائع الجديدة على الأرض هو كيفية تحصين الأجيال الجديدة وحماية شخصيتها من الذوبان في نسق النمطية المعولمة على نطاق واسع في السلع والأفكار وأسلوب الحياة؟ وكيفية حمايتها أيضاً ضد محاولات الابتلاع الكاسحة من الأيديولوجيات الدينية المتصاعدة والطامحة إلى السيطرة على كل شيء: السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع والحريات العامة والخاصة، بحيث يتم تحويل الفرد إلى مجرد ببغاء أو آلة ذات استجابة آلية، وبذلك يتم ابتلاع جميع المكاسب التي ناضلت من أجلها الأجيال، وعلى رأسها الحرية وحقوق الإنسان وتحرر المرأة من ربقة العبودية باسم الدين.
والجواب في كل الأحوال يكمن في ضرورة نشر ثقافة الاستنارة والعقلانية ودمقرطتها وجعلها حقاً مشاعاً للجميع، والعمل على إيصالها للجميع وجعل ثقافة النخبة ثقافة للجمهور في مواجهة ثقافة الغش والنصب والكذب والاستلاب والدجل.. ثقافة الدجالين والدجالات باسم الأيديولوجيا مهما كان نوعها ومصدرها، بما في ذلك الأيديولوجيات المقدسة التي تبدو اليوم أخطر على الفرد وحريته وإنسانيته من الأيديولوجيا الفاشية.