رغم استماتة نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف، للدفاع عن الموقف الروسي المتمسك بأهمية “المحافظة على الوجود الدولي في سوريا، و«تحذيراته المتكررة من مغبة” انسحاب مراقبي الأمم المتحدة من سوريا الذي سيؤدي، في حالة إتمامه، إلى عواقب وخيمة”، فشل مجلس الأمن في الخروج بقرار موحد يقضي بتجديد “مهمة بعثة المراقبة الدولية إلى سوريا والتي تنقضي بعد ساعات مهلة تفويضها”، وهو نذير بتعثر المساعي الدولية لإخراج سوريا من محنتها التي تقترب من عامها الثاني.
لكن ليس هذا كل ما في الأمر عندما تتعلق المسألة بتعقد الأوضاع في سوريا، ووصولها إلى ما يشبه الباب المسدود، فوجدناها تنطلق “تلك الأوضاع” التي لم تعد محصورة في نطاق الحدود السياسية السورية، باحثة عن متنفس خارجي، ثم رأيناها تمتد إلى أقرب منطقة رخوة متاخمة لحدودها، كي تنيخ راحلتها في الساحة السياسية اللبنانية، التي شهدت قبل أيام توتراً لبنانياً، مصدره الأوضاع السورية، عندما أقدمت عائلة المقداد على اختطاف مجموعة من عناصر جيش سوريا الحر، وأعلنت مؤخراً على لسان أمين سر رابطة آل المقداد في لبنان ماهر المقداد أن المجلس العسكري للعائلة قرر وقف “كل العمليات العسكرية على الأراضي اللبنانية لأنه أصبح لدينا كنز كبير من السوريين للتفاوض بهم، مضيفاً “لدينا أعداد كافية من السوريين المتورطين مع الجيش السوري الحر إضافةً إلى الرهينة التركي.. لدينا أكثر من 20 مختطفاً”. ولم يأت الاختطاف من فراغ، فهو ردة فعل “بيت المقداد”، على اختطاف أحد أفراد عائلتهم حسان المقداد، على يد عناصر من جيش سوريا الحر. وعلى نحو مواز من ذلك، هناك العلاقة الاستراتيجية بين “حزب الله” اللبناني مع النظام السوري القائم، التي وصلت، بحكم تطور الأوضاع في سوريا، إلى ما هو أبعد من مجرد التأييد الإعلامي اللفظي.
ليس القصد هنا الغوص في فسيفساء القوى السياسية اللبنانية، من أجل التوصل إلى فصل واضح بين من يقف منها إلى جانب النظام في سوريا، وآخر يقف في جبهة واحدة مع القوى المناوئة له. فما هو أهم من كل ذلك بكثير، أنه بغض النظر عن أي شكل من أشكال الاصطفاف اللبناني إزاء “الحالة السورية”، هناك نتائج وتداعيات امتداد ألسنة لهب تلك الحالة من الساحة السورية إلى الساحة اللبنانية، المهيأة نيرانها للالتهاب، مجرد تقريب عود ثقاب واحد مشتعل من حدوده، وهي الأكثر خطورة على مستقبل الصراع الداخلي السوري، بعيداً عن ذلك الاصطفاف، سواء وعت الحركة السياسية اللبنانية هذه النتيجة الموضوعية البعيدة عن نوايا أي من الأطراف في الصراع، أم غابت عن ناظريها. وهو أمر ينطبق على القوى السياسية السورية، بغض النظر عن القوى اللبنانية المتحالفة معها.
نخلص إلى كل ذلك، كي نطلق صفير إنذارات مخاطر تلك التحالفات، التي تسعى إلى فتح “كوريدور لبناني”، بغض النظر عن القوى السياسية التي تستخدمه اليوم، لأنه سيكون معبراً ملائماً لأكثر من طرف لبناني، ليس بالضرورة متجانس سياسياً، بل ربما يكون، ولأسباب لبنانية بحتة، يحتضن نسبة عالية من التناقض، وربما التناحر بين من يعبره. من هنا تنبع ضرورة رؤية الأطراف السورية ما يجري في لبنان، ذي العلاقة بالأوضاع السورية، من منطلقات وطنية استراتيجية سورية طويلة المدى، بعد أن تتخلص -تلك الأطراف- من نزعاتها الفئوية الضيقة الأفق والقصيرة المدى. ففي ذلك “الكوريدور” تكمن متربصة عناصر الخطر المدمرة على سوريا، التي يمكن إيجاز الأكثر أهمية بينها في النقاط التالية:
1- تعليق المشكلة اللبنانية، التي تقترب من حالة الخلود، في ذيل شقيقتها السورية، الأمر الذي من شأنه إضافة تعقيدات أخرى إلى تلك التي تعاني منها هذه الأخيرة اليوم. ويرتكب، أي طرف من أطرف الصراع السوري، خطأ فادحاً، عندما يتوهم أن في ذلك نقلة في موازين القوى لصالحه. فأوحال الحرب الأهلية اللبنانية التي يربو عمرها 35 عاماً، لن ترحم أي من القوى السورية. حينها لن يقتصر الأمر على المواجهات العسكرية، حيث سينتشر الفيروس اللبناني بخياشيمه الجشعة، كي ينال حصته من الكعكة السورية، لكن ليس في ميادين الوغى فحسب، وإنما في مواخير المخدرات وأسواق السلاح أيضاً. وسيكتظ “الكوريدور اللبناني”، بتجار تلك المواخير والأسواق، التي سوف تستخدمه بكفاءة عالية، دون التردد في استخدام أسوأ أنواع الرشاوى، المبطنة بأساليب متطورة في عمليات التهديد، وما يصاحبها من أنشطة إرهابية، عانى المواطن اللبناني العادي منها، طيلة اندلاع معارك الحرب الأهلية اللبنانية التي أشرنا لها، كي يشاركه فيها شقيقه السوري، متى ما نجح رواد ذلك “الكوريدور” في نيل مبتغاهم.
2- فتح المجال واسعاً أمام تدخل إسرائيلي، ربما يبدأ بشكل خجول ومبطن، لكنه لن يلبث متخفياً طويلاً، بل سيسارع كي يكشف قناعته، ويبرز على حقيقته البشعة الغاشمة، مستفيداً من الإنهاك الذي زرعته أنشطة ذلك “الكوريدور اللبناني” في الجسد السوري، وتداعياتها المباشرة على الأوضاع في سوريا، التي من الطبيعي أن تكون حينها مثخنة بالجراح، وغير قادرة على التحكم في مسارات صراعاتها الداخلية، بعد أن استجد عليها التدخل الإسرائيلي، الذي من طبيعته عدم ترك الحبال على الغارب، خاصة على جبهة استراتيجية من مستوى هضبة الجولان السورية المحتلة، مجرد أن شم رائحة شكل من أشكال الترابط بين الأوضاع في سوريا ولبنان. ولعل في الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، الكثير من الدروس والعبر التي يمكن، لمن يشاء، في إطار التداخل السوري اللبناني الذي نتحدث عنه، والتي انتهت بخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وانسحاب القوات السورية منه، ومن ثم تقليص النفوذ السوري المتواجد فوق أراضيه. لم تقم إسرائيل بذلك حباً في الشعب اللبناني، وإنما كرهاً في الوجودين الفلسطيني والسوري. الحديث هنا لا يناقش شرعية أي من الوجودين، بقدر ما يسلط الضوء على توازن القوى السوري - الإسرائيلي، في نطاق الصراعات التي احتضنتها الحرب الأهلية اللبنانية منذ اندلاعها.
3- تشجيع أشكال مسيئة لسيادة سوريا، وتمس صلب سيادتها الوطنية، على أيدي القوى المتسللة عبر ذلك “الكوريدور اللبناني”، فيما لو أقفلت في وجه مشروعاتها حدود الدولة السورية، التي ستجد نفسها مجبرة على المساومة على سيادتها الوطنية، حيث سيلجأ كل طرف لبناني من أطراف الصراع للاستعانة بالمعسكر السوري المتحالف معه. وليس هناك من مفر لحل لتلك المعادلة التي سربها التدخل اللبناني عبر ذاك “الكوريدور”، بخلاف وقوع سوريا كدولة ووطن، في حبائل القوى الدولية التي ستكون متربصة بها، من أجل نيل حصتها عند اقتسام الكعكة السورية، بعد أن يتم طهيها على نار هادئة، بين تلك الأطراف الدولية، التي ستحرص على إبعاد الأطراف السورية من معادلتها. مرة أخرى، لابد من التحذير من الوقوع فريسة سهلة لاحتمال التوصل إلى حل للمشكلة السورية ترتكز على المشروع العربي، الذي لن تألو القوى الدولية جهداً من أجل وأده، متى ما شمت منه رائحة تبعد سوريا عن مقصلة تلك الدول الباحثة عن صيغة عالمية لتحقيق أفضل المكاسب من النهايات التي سيؤول لها الصراع في سوريا، الذي لن تدع القوى الدولية مجالاً لأي من القوى السورية للخروج من أسجيته.
ومن الطبيعي أن يأمل المواطن في سوريا ولبنان أن يغلق هذا “الكوريدور اللبناني” قبل أن تستفحل الأخطار القادمة منه.