نكمل في الجزء الثاني من المقال حديثنا عن احتمالات ضرب النووي الإيراني ونتائجها على المنطقة، فلو افترضنا جدلاً أن سيناريو إيعاز واشنطن، وربما دوائر غربية أخرى، لإسرائيل لضرب إيران، وقبول هذه الأخيرة بالقيام بمثل هذه المهمة، هو الأكثر تلبية للاستراتيجية الأمريكية، والأفضل تقبلاً لدى الدوائر الإسرائيلية، على حد سواء، فما هو حظه من التنفيذ، والنجاح؟ كل المعطيات تشير إلى أن تل أبيب اليوم، لم تعد تنعم بعناصر التأهب والقوة التي أهلتها لقصف المفاعل النووي العراقي “تموز” في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، ولا تلك التي مكنتها من ضرب المشروع النووي السوري في عام 2006، وذلك للأسباب الذاتية الإسرائيلية، المتفاعلة مع الموضوعية الإيرانية، التالية:
على مستوى الأمن “القومي الإسرائيلي”، تكاد الجبهات الإسرائيلية، جميعها دون أي استثناء أن تكون مصدر قلق حقيقي بحاجة إلى إعطائه المزيد من الاهتمام والأولوية في المهمات، فهناك الجبهة السورية التي تنذر ببعض المخاطر، فيما لو سقط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، بغض النظر عن القوى التي سترثه. والنتيجة ستكون أسوأ، من وجهة نظر الأمن الإسرائيلي، في حال سقوط الثمرة السورية في أحضان قوى الإسلام السياسي، التي لا يحظى أي فصيل منها بالحد الأدنى من ثقة المؤسسة الأمنية الصهيونية. وليست الأوضاع في سيناء بأفضل حالاً من وجهة النظر الإسرائيلية، الأمر الذي جعل المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند تدعو “مصر إلى إبقاء قنوات الاتصالات مع إسرائيل مفتوحة للتنسيق بشأن مكافحة الإرهاب في شبه جزيرة سيناء المنزوعة السلاح بموجب معاهدة كامب ديفيد للسلام الموقعة بينهما عام 1979”. لكن هذه الدعوة لا تنشر الطمأنينة في صفوف المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، اتي أبدت استياءها، في أكثر من محضر من “نشر تعزيزات عسكرية مصرية هناك قبل زيارة الرئيس المصري محمد مرسي إلى الولايات المتحدة”، المقررة في 23 سبتمبر المقبل. ومن الخطأ استثناء الجبهة اللبنانية المتاخمة للشمال الإسرائيلي، والتي تخشى إسرائيل اشتعالها، فيما لو أقدمت هي على خطوة ضد إيران، نظراً للعلاقات الإستراتيجية التي تحكم العلاقة بين “حزب الله” اللبناني، والمؤسسة العسكرية الإيرانية، والتي أثبتت الأحداث السورية أن “حزب الله” عاملاً من الخطأ إسقاطه عند حصر القوى المتصارعة على جبهة الجنوب اللبناني، والذي لن يكون بطبيعة الحال لصالح الطرف الإسرائيلي.
الأمر ذاته ينطبق عند مناقشة الاحتمال من منظار الأوضاع السياسية الإسرائيلية الداخلية، فهناك شبه إجماع، نقلته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية على التردد الذي يحكم سلوك الحكومة الإسرائيلية الحالية. إذ تعتقد “هآرتس” أن السياسيين والعسكريين يرون أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو شخصيّة مترددة على عكس شخصية الزعيم السابق، مناحيم بيغن الذي كان قادراً على حسم القرار إلى جانب أن وزير الدفاع إيهود باراك، ورئيس أركان الجيش غابي أشكنازي، شخصيتان حذرتان يضاف إلى ذلك أن الموقف الأمريكي الرافض لهذه الضربة هو سبب آخر يعزز هذه القناعة”.
هذا التردد الإسرائيلي، تزداد سلبياته، ومن ثم يضاعف من عدم احتمال عدم إقدام إسرائيل على ضرب المفاعل الإيراني، عندما يرافقه انقسام في الدوائر السياسية الإسرائيلية حول هذه المسألة يصل إلى قمة المؤسسة الحاكمة. فقد نقل موقع “راديو موسكو” الإلكتروني ما كتبته صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية يوم 24 أغسطس حول عدم اجتماع “الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز على مدى أسبوعين مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو رغم أنهما كانا سابقاً يبحثان بشكل منتظم القضايا الملحة. وحدثت خلافات بينهما حول البرنامج النووي الإيراني والطريقة التي يجب على إسرائيل اختيارها للرد عليه. وبلغ التوتر في علاقاتهما ذروته” حيث أعلن الرئيس الإسرائيلي أن “محاولة تنفيذ عملية عسكرية ضد المشاريع النووية الإيرانية دون دعم أمريكي قد يؤدي إلى كارثة”. واتهم بيريز رئيس الوزراء ووزير الدفاع “بانعدام روح المسؤولية لديهما”، مشيراً إلى أن “مواقف النخبة الإسرائيلية من الهجوم على إيران انقسمت بنسبة 50 %”“.
ولا تقف العوائق التي تحول دون إقدام إسرائيل على توجيه ضربة، ولو مباغتة للمفاعل النووي الإيراني، عند العواقب العسكرية فحسب، ولا حتى السياسية فقط، فهناك تخوف الدوائر الحاكمة في تل أبيب، من الثمن الباهظ الذي سيتكبده الاقتصاد الإسرائيلي عندها. فبحسب دراسة قامت بها مجموعة “بي.دي. آي كوفيس” ونشرتها صحيفة “ناشيونال بوست” من المتوقع في حالة نشوب حرب بين إسرائيل وإيران بسبب برنامجها النووي أن “يتكبد الاقتصاد الإسرائيلي نحو 42 مليار دولار أمريكي، وأن الأضرار الاقتصادية المباشرة سوف تصل إلى 11.7 مليار دولار أمريكي، وهو ما يعادل 5.4% من الناتج المحلي الإسرائيلي للعام الماضي، وأن الأضرار الاقتصادية غير المباشرة سوف تصل إلى 5.9 مليار دولار أمريكي في العام الواحد لمدة تتراوح من 3 إلى 5 سنوات وفقاً للانهيار التجاري الذي سيقع”.
يبقى هناك العامل الأهم من كل تلك العوامل وهو المتعلق بالجوانب العسكرية المحضة، والتي ربما تحتاج إلى خبير استراتيجي قادر على قراءة الجوانب العسكرية المختلفة المتعلقة بمدى قدرة الترسانة العسكرية الإسرائيلية، التي لن تكون، فيما لو حصلت على الإشارة الخضراء من واشنطن، بعيدة عن التعزيزات التقنية واللوجستية الأمريكية، على تنفيذ خطة تدمير المفاعلات النووية الإيرانية، وتحقيق الأهداف المرجوة منها بنجاح. هناك شبه إجماع من الكثير من المحللين الإستراتيجيين على أنه “عكس الطبيعة الجغرافية للعراق، فإن الأراضي الإيرانية أراضي واسعة ومختلفة التضاريس لا يمكن للولايات المتحدة - حتى لو حصلت على تخويل لغزو إيران - السيطرة عليها بصورة كاملة دون مقاومة طويلة وخسائر فادحة واستعمال أسلحة محرمة دولياً ومنها القنابل الحرارية والقنابل الذرية والقنابل النيوترونية التكتيكية”.
أما بالنسبة لإسرائيل فترى الخبيرة النووية إيملي كورلي من مجموعة “جينز العسكرية”، أن توجيه ضربة لمفاعلات “لمفاعل “أصفهان”، بجانب مجمع “آراك” النووي”، وهما مشيدان على سطح الأرض ما يسهل نسبياً تدميرهما بالقصف الجوي، على نقيض “فوردو” الذي يصعب اختراقه لكونه مقاماً داخل جبل، على حد قولها. ويقع “نطنز”، بوسط إيران، على عمق 33 قدماً تحت الأرض تحت كتل أسمنتية يبلغ سمكها 6 أقدام، و«من ثم” هناك تساؤلات إزاء قدرة إسرائيل على تدمير فوردو بضربة جوية، “كما أن” مهاجمة “نطنز” و«آراك” دون تدميرهما لا يساوي المخاطرة”.
ويشاطر رئيس تحرير دورية “جينز إيرلونشد ويبونز” المعنية بالأسلحة الجوية روبرت هيوسون، إيملي كورلي شكوكها قائلاً “إن من المرجح أن موقع “فوردو” أنشيء ليتحمل هجوماً مستمراً”، مضيفاً “نعلم كحقيقة أو حقيقة شبه مؤكدة أنهم لن يستطيعوا وقف هذا البرنامج بالغارات الجوية”.
كل تلك العوامل تشير إلى أن قيام أي من الولايات المتحدة بشكل مباشر، أو عبر حليفتها إسرائيل، ليس احتمالاً قائماً في الظروف الراهنة، ما لم تستجد ظروف أخرى مختلفة على الصعد كافة.. السياسية الموضوعية في المنطقة، والاقتصادية والعسكرية لإسرائيل، بالإضافة إلى الأوضاع المحلية الإيرانية. ومن ثم فالسيناريو الوحيد المنظور، هو استقرار الحالة على النحو التي هي عليه الآن والتي تتلخص، في استمرار طهران في تطوير مشروعها النووي المثير للخلاف سياسياً، لكنه المحصن عسكرياً، والمواكب، كما نشهد اليوم، بالمشادات الكلامية والحروب الإعلامية، دون أن يقود ذلك إلى تغيير الحقائق التي بات راسخة على الأرض والتي تعمل لصالح تطوير ذلك المشروع، ما لم يطرأ عامل بعيدا عن التوقعات المنطقية المستمدة من تلك العوامل التي أشرنا لها