طالما كانت تلك كل العوامل الإيجابية لصالح قيام شكل من أشكال التكتل العربي متوفرة، فما الذي حال ومايزال يحول دون تبلور مكون سياسي عربي يتناسب والدور الإيجابي المفترض لتلك المقومات التي سقناها في الحلقة الأولى من هذه المقالة؟ تبرز أمام المتابع لتطور التاريخ العربي الحديث مجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية التي تفاعلت، كي ينجم عنها هذا الواقع العربي المنافي لأبسط أشكال الانتماء، والتي يمكن حصر أهمها في النقاط التالية: على مستوى التفاعل الذاتي مع موضوعي؛ يمكن الحديث عن أهمية هذا المنطقة استراتيجياً بحكم موقعها الجغرافي المتوسط للعالم القديم الذي كان يضم أوروبا وآسيا وأفريقيا، ثم تعاظمت هذه الأهمية بعد اكتشاف النفط، الذي حول هذه المنطقة إلى محط أنظار الدول العظمى التي لم تكف عن محاولات السيطرة عليها من أجل التحكم في طرق الملاحة العالمية وتأمين الاتصالات فيما بينها في البداية، وفي مرحلة لاحقة من أجل إشباع جوع الدول العظمى وحاجتها المتزايدة من مصادر الطاقة. هذا التفاعل بين الموضوعي والذاتي هو الذي حث الدول العظمى، وتطبيقاً لمقولة “فرق تسد”، على العمل من أجل الحيلولة دون بروز أي كيان سياسي عربي قادر على الوقوف ضد أي من مشروعات تلك الدول أو الحد من أطماعها. بل لم تتردد تلك الدول، إمعاناً في سياسة التمزيق تلك، أن تخلق كياناً مصطنعاً هو الدولة العبرانية، كي تواصل دورها كحارس أمين لتلك المصالح، وعامل محلي مؤثر في عملية التشطير. ولا بد من أن نلفت هنا إلى أن هذا الكيان وانطلاقاً من مصالحه الذاتية المحضة أيضاً التي تتلاقى في كثير من عناصرها مع أطماع الدول العظمى، بما فيها الكتلة السوفياتية قبل انهيارها، ساهم بشكل كبير في تغذية تلك النزعات الذاتية نحو وضع العصي في دواليب أي مشروع للتوحد العربي، والتي كانت أبرز محطاتها اتفاق كامب ديفيد ومعاهدة السلام التي وقعتها مصر في عهد الرئيس الراحل أنور السادات مع ذلك الكيان، والتي شطرت العرب حينها إلى جبهتين متناحرتين، عرفت الأولى المناهضة لها بجبهة الرفض، وألصق بالثانية اسم “جبهة الاستسلام” وأحياناً “جبهة الانبطاح”. ودام الصراع بين الجبهتين بدلاً من حشد الجهود ضد العدو الصهيوني المشترك لما يزيد على عقد، أهدرت خلاله الكثير من الطاقات العربية، بما فيها تلك الساعية نحو بلورة مشروع للوحدة. ليست هنا حاجة لتقويم موقف أي من الجبهتين، إذ إن ما يهمنا هنا هو المحصلة النهائية التي أدت إلى حالة التمزيق التي قادت لها تلك المعاهدات، التي لم تتوقف حروبها الداخلية التي بدأت في نهاية العقد السابع من القرن الماضي، حتى بداية التسعينات عندما أرسل صدام حسين قواته لغزو الكويت، لتبدأ مرحلة جديدة من الخلافات، لكنها هذه المرة ذاتية محضة، حيث انقسم العرب مرة أخرى من جديد، بين مؤيد لصدام وما قام به، وشاجب له ومندد بدوافعه. ومرة أخرى جرى تصنيف القوى العربية التي وقفت إلى جانب صدام بأنها المناهضة للمشروع الأمريكي، والأخرى بالمباركة له. لسنا بصدد تقويم صحة مواقف أي منهما، فما نحن بصدده هنا هو تشخيص النهايات فحسب. وما كان أهم من كل ذلك هو ضياع كل الجهود الناضجة التي حاولت، بشكل موضوعي إبراز خط عربي ثالث يختلف عن الاثنين معاً، والتي تراجعت دعواتها وسط مزايدات الطرفين الآخرين. العامل الثاني، والصادر عن التفاعل الذاتي مع الموضوعي، هو كما أسلفنا بالقول، كون الغالبية العظمى من العرب هم من المسلمين، يضاف إلى ذلك، موقع الكعبة الشريفة، ومكة المكرمة في قلب المنطقة العربية، يتفاعل كل ذلك مع كون النبي (صلى الله عليه وسلم) ينحدر من أصول عربية، وجاء القرآن الكريم أيضاً بلسان عربي. كل هذه العوامل مجتمعة حملت العرب، مسؤولية تمثيل الإسلام والدفاع عنه، ليس تاريخياً فحسب، وإنما حتى يومنا الحاضر. أدى ذلك، ولكون الإسلام ديناً عالمياً، إلى جانب كونه آخر الأديان، إلى بروز صدام بين العرب ومن وضعوا أنفسهم في خندق المعادين له، وانعكس ذلك استراتيجياً، في كل مشروع سياسي ارتبط، بشكل أو بآخر، بالإسلام. ولعل آخر المواجهات بين العرب والولايات المتحدة ومن ورائها الدول المتحالفة معها، بدأت بالهجوم على البرجين في نيويورك في سبتمبر 2001، وما تلى ذلك من تحميل الإسلام والمسلمين، وبالتالي العرب، مسؤولية تلك العملية، دون أن نغفل ترجماتها العملية على أرض الواقع، التي بدأت في أفغانستان، وعرجت على العراق، وتواصل اليوم مشروعها في منطقة الخليج العربي. محصلة كل ذلك انشطار عميق في الجسم العربي مصدره الموقف من الإسلام السياسي، حيث انقسم العرب، دون أي مبرر، أو صنفوا، دون أي منطق موضوعي، لكن بوعي كامل من الولايات المتحدة وحلفائها، إلى مسلمين متطرفين، وآخرين معتدلين. مرة أخرى، ودون الحاجة للغوص عميقاً في تحليل ظاهرة الإسلام السياسي، فالهدف هنا هو أن محصلة ذلك كانت انقسام العرب حيال قضية معينة، ووقوفهم في خندقين متجابهين تجاه مسألة يفترض أن تكون عامل توحيد، بدلاً من أن تكون مصدر شقاق، بينهم. أما على المستوى الذاتي، فلم يعرف التاريخ العربي المعاصر، مشروعاً وحدوياً قابلاً للتطبيق، ولعل ذلك قادر على تفسير أسباب مشروعات التوحيد العربية بما فيها الثنائية، مثل الوحدة المصرية السورية في العام 1958، والتي لم تصمد، بسبب هشاشتها، أكثر من عامين يتيمين. الأمر ذاته ينطبق على مشروعات أخرى مثل “مجلس التعاون العربي”، الذي ضم مصر وليبيا والأردن واليمن وسوريا والعراق، والذي لم تتجاوز تطبيقاته الفعلية على أرض الواقع، البيان الصادر عن دوله، والميثاق الذي وقعته تلك الدول فيما بينها، ولذلك وجدناه يموت قبل أن يولد. جميع تلك المشروعات، وأخرى غيرها، دون أي استثناء كانت مجرد ردود فعل آنية عفوية انفعالية، بدلاً من أن تكون مشروعات استراتيجية مدروسة، وهذا يفسر تهاويها واحداً بعد الآخر. واستمرار في تناول العوامل الذاتية، نصل إلى تجربة مجلس التعاون الخليجي، والتي رغم كونها شكلاً من أشكال التوحد العربي، الذي نجح في الصمود لما يزيد على العشرين عاماً، فهي الأخرى، رغم إيجابيتها في الاستمرارية، وبعض الإنجازات التي حققتها لصالح العمل الوحدوي إلا أنها تعاني من مثلبين عند الحديث عن مشروع استراتيجي يقوم على الإيمان بمفهوم الانتماء العربي. الأول هو أن مجلس التعاون، رغم شكله الوحدوي الذي يبدو عليه، لكن الخلافات، غير المبررة ماتزال تنخر جسده، وتنهش عموده الفقري، والتي يتكرر ظهورها بشكل جلي، عند مناقشة قضايا جوهرية تمس صلب عملية الانتماء، الذي نطمح إليه، مثل العملة الموحدة، أو التعرفة الجمركية الموحدة، أو التملك العقاري، ومثيلاتها من القضايا ذات المستوى المصيري، فهي ماتزال أسيرة النقاشات غير المبررة التي تثار حولها. المثلب الثاني هو أنه، بقصد أو بغير قصد، أحدث مجلس التعاون الخليجي شرخاً عمودياً عميقاً في الجسد العربي بين من هو خليجي وآخر غير خليجي، وأصبح الأول، بفضل الثروات النفطية، يحتل مركزاً متعالياً، مقارنة بمن هو غير خليجي، باستثناء الدول العربية النفطية الأخرى مثل الجزائر وليبيا والعراق