عندما عملت إيران على تخريب بنية الدولة العراقية واستنهاض البنى الطائفية وإحيائها لتعزيز نفوذها الطائفي وإضعاف العراق دولة وشعباً، لم يدر بخلدها أن السحر غالباً ما ينقلب على الساحر، فإيران كبنية جغرافية واجتماعية قابلة للتفكيك بسهولة تامة، ولنفس الأسباب وبنفس الآليات، وذلك لأن النظام العسكري - الأمني ليس بوسعه حماية وحدة الدولة إذا كان أيديولوجيتها قائمة على أساس التمييز (الطائفي أو الديني والعرقي). فتشجيع النزعات الطائفية الانفصالية داخل العراق قد يؤدي إلى سلسلة من الحروب الأهلية الطاحنة تنتهي في الغالب بالتقسيم والانفصال على النمط الذي حدث في يوغسلافيا السابقة (كرواتيا، صربيا، البوسنة والهرسك..). وهذه العملية إذا ما بدأت وتدحرجت كراتها فإنها لا تنتهي إلا إذا أنهت “مهمتها” واستقرت على “ البلقنة” التي تتحول بعد ذلك إلى مشاريع حروب طائفية جديدة. فهذه اللعبة التي تلعبها إيران في أفغانستان وفي العراق وفي مناطق التواجد الشيعي في البلاد العربية لعبة في منتهى الخطورة ليس على العرب فحسب، بل على إيران نفسها، على وحدتها الترابية والاجتماعية على المدى البعيد. واللعبة هنا مكشوفة ومؤكدة، ولا يقلل من شأن خطورتها النفي الإيراني المتكرر لإثارة النعرات الطائفية بين المواطنين العرب في دول الخليج العربية وغيرها، حيث تبدو تعليقات إيران حول هذه الاتهامات مدعاة للسخرية، خصوصاً عندما يقول بيانها الرسمي إن “هذا الاتهام لا أساس له من الصحة ومفبرك” مع أن التدخل الإيراني السياسي - الطائفي والإعلامي، تترجمه يومياً سياسات ومواقف معلنة وبيانات وتصريحات رسمية وعشرات القنوات الإيرانية الناطقة باللغة العربية والموجهة إلى العرب (علماً بأنه لا توجد لدى العرب أية قناة موجهة إلى الشعوب الإيرانية باللغة الفارسية مثلاً). ويكفي هنا استعراض نموذجين من محاولات إيران المكشوفة والمعلنة للتدخل في المنطقة واللعب وبأمنها واستقرارها وبهويتها العربية: المثال الأول هو العراق الذي تركته القوات الأمريكية المحتلة، بعد خروجها الاضطراري تحت وقع المقاومة العراقية فريسة للنظام الإيراني من خلال أعوانه الطائفيين، حيث قامت المليشيات الطائفية المسلحة المؤتمرة بإمرة فيلق القدس الإيراني بتهجير أكثر من أربعة ملايين عراقي إلى خارج العراق، وهجرت مئات الآلاف منهم خارج محافظاتهم، وأحلت محلهم مئات الآلاف من الإيرانيين (وبعض التقارير تقول ملايين)، ومنحتهم الجنسية العراقية وقتلت أكثر من نصف مليون من العراقيين بدعوى أنهم من أتباع النظام السابق، وسيطرت على التجارة الداخلية واحتكرت الأسواق العراقية للبضائع الإيرانية، ولم تكتف بذلك بل عمدت إلى تهريب العملة الصعبة من العراق إلى إيران من خلال شراء الدولار بالعملة العراقية الورقية الهابطة القيمة، ولا شك أن مثل هذه الأعمال تعني أن نظام الملالي يريد جعل العرب في بلدهم العراق أقلية من الأقليات، ولذلك فإن رموز النظام الإيراني يطرحون اليوم بكل وضوح فكرة الوحدة بين إيران والعراق. المحطة الثانية لإيران هي البحرين التي تراها أرضاً رخوة، فحاولت خلال العام الماضي، وبتوجيه من فيلق القدس تحريك المؤامرة المركبة بواسطة تكتيكات حزب الله المعروفة، فظهرت نتائجها أثناء المظاهرات التي رفعت فيها شعارات إسقاط النظام وإقامة نظام على النمط الإيراني، وقد تمت تغطية هذا الهدف بشعارات الديمقراطية التي لا تطبق في النسخة الأصلية للجمهورية في إيران، فما بالك في النسخة المستنسخة عنها، ومن حسن حظ البحرين وأهلها أن تم إحباط هذا المخطط في مرحلته الأولى على الأقل، حيث أدرك أغلب سكان البحرين (شيعة وسنة) أن النضال من أجل الهوية العربية والوطنية يسبق النضال من أجل الديمقراطية نفسه، ليس لعدم أهمية الديمقراطية أو الحاجة إليها، بل لأن فقدان الهوية القومية والوطنية أو إضعافها لن يوصل البلاد ولا الشعب إلى الديمقراطية، بل إلى الخضوع لنظام الملالي الذي يفتقد إلى الديمقراطيين ويحكم باسم الدين وباسم “ولاية الفقيه” حكماً يجمع العالم اليوم أنه من أسوأ الأنظمة الاستبدادية، وأكثرها ديكتاتورية. من الواضح في النهاية أن سياسة التسامح وتقديم التنازلات للدكتاتورية في نسختها الإيرانية في ظل الملالي لن تكبح جماح العدوانية، بل إن السياسة الصحيحة الوحيدة أمام هذا النظام هي إبداء الحزم والصرامة تجاهه، واتخاذ قرارات واضحة لمواجهة هذه العدوانية التي سوف تشهد في يوم قريب انقلاب السحر على الساحر إذا ما استمرت في التلاعب بأمن المنطقة العربية واستقلالها وهويتها القومية والوطنية باسم الطائفية المقيتة.