في مقاله بجريدة الشرق الأوسط أشار الأستاذ طارق الحميد إلى الفتوى التي أطلقها آية الله كاظم الحسيني وهو أحد المراجع الشيعية المقيمة في إيران والتي تتلخص في “تحريم التصويت في أي مرفق من مرافق الحكم العراقي لمصلحة أي مواطن عراقي علماني”، ويفسر “الحميد هذه الفتوى بأنها تعني وجوب التصويت لرجال الدين الشيعة فقط ويتساءل هنا عن أي ديمقراطية يتحدث هؤلاء في ظل هذه الفتوى التي تدعو إلى التصويت إلى رجال الدين دون سواهم”. ونتيجة لهذه الفتوى العجيبة يطالب الحميد في ختام مقاله: عقلاء الشيعة في كل من العراق والبحرين ولبنان وغيرهم بالمنطقة بالرد على هذه الفتوى؛ لأنها حسب رأيه تصطدم مع مطالب الشيعة بالإصلاح، وبحقوق الأقليات، وبالمشاركة السياسية. كلام الحميد حول هذه الفتوى يطرح مجدداً إشكالية في رأينا تتعلق بتركيبة وبنية النظام السياسي في إيران، وهل هذا النظام يؤمن بالديمقراطية فعلاً كما جاءت في كتب الفلسفة وعلم الاجتماع والقانون والسياسة والأدبيات الغربية عموماً وتطبيقاتها في الدول الديمقراطية وهي التي تقوم أساساً على التعددية التي تتيح لكل أطياف الشعب وألوانه السياسية أن تمارس حقوقها السياسية من دون منح امتياز أو تفضيل لطيف أو لون سياسي معين على آخر فالجميع متساوون في المشاركة السياسية وفقاً للدساتير المعمول بها في هذه الدول. في الحالة الإيرانية الوضع جد مختلف فالكلمة الأولى والنهائية في القرار السياسي ليس للرئيس المنتخب، ولا لأعضاء البرلمان المنتخبين، إنما للمرشد الأعلى فهو صاحب القول الفصل في أية قضية جدلية داخلية كانت أو خارجية. وإذا ما قال كلمته فعلى الجميع السمع والطاعة بما فيهم قمة الهرم السياسي وهو رئيس الجمهورية. لذا فإن النظام السياسي في إيران لا يسير في نهجه الديمقراطي وفقاً لقواعد الديمقراطية الغربية. فهو -أي النظام الإيراني- لم يأخذ منها إلا الإطار الشكلي المتمثل في وجود رئيس وبرلمان منتخب من الشعب. من جهة ثانية، حتى الرئيس المنتخب قبل أن يرشح نفسه يمر عبر مراحل حددها الدستور الإيراني فهناك عدة اشتراطات على المرشح أن يجتازها حتى يكون ترشيحه مقبولاً ويحق له بعد ذلك دخول المنافسة على كرسي الجمهورية. ولن ندخل في تفاصيل هذه العملية التي يعرفها الجميع التي أصبحت مجسمة في الواقع السياسي الإيراني بشكل واضح وجلي سواء في السياسة الداخلية أو في السياسة الخارجية والأمثلة كثيرة التي تثبت وتبرهن على أن المرشد الأعلى هو من بيده مفاتيح خزائن كل الملفات الإيرانية. فعلى صعيد السياسة الخارجية نجد أن الملف النووي الإيراني يتم التعاطي معه بناء على تعليمات المرشد الأعلى للثورة وهي التي يتم على أساسها الحوار التي تجريه إيران حالياً مع الدول الغربية وليست تعليمات الرئيس أو البرلمان. أما على صعيد السياسة الداخلية فإننا نجد أن ملف التعيينات في المناصب العليا للدولة فهو من اختصاصه فالوظائف العليا يتم اختيارها بناء على موافقة المرشد الأعلى ومباركته. من هنا نقول إن المؤسسة الدينية هي صاحبة السلطة في إيران وهي أعلى في رتبتها من مؤسستي الرئاسة والبرلمان. نخلص مما سبق إلى القول بأن الديمقراطية الإيرانية التي جلبتها الثورة الخمينية تم تفصيلها حسب مقاسات الملالى وهي مقصودة لتكون كلمتهم العليا في الشأن الإيراني، وبالمناسبة فإن فكرة المرشد الأعلى المطبقة في إيران مأخوذة من كتب الآباء الأوائل للإخوان المسلمين في مصر، حيث هم أول من ابتدع هذا المسمى ووظيفته في السلم السياسي. وعليه فإن فتوى “الحائري” تصب في هذا الاتجاه وتتناغم مع الديمقراطية التي أنشأها “الخميني” التي حصرت الانتخاب في رجال الدين ومنحت السلطة المطلقة للولي الفقيه في تقرير مصير الشعوب الإيرانية. الأمر العجيب والغريب أن الخمينيين لم يكتفوا بتطبيق نموذجهم في بلادهم بل حاولوا -ولايزالون يحاولون- استنساخ تجربتهم في دول الجوار وخصوصاً تلك الدول التي يتجاوب جزء من شعوبها مع الأفكار الخمينية مثل العراق والبحرين والكويت ولبنان وسواء كان ذلك من خلال تصدير الثورة لهذه البلدان أو عبر البوابة الديمقراطية كما حصل في العراق بعد الاحتلال الأمريكي له. فمن خلال تلك البوابة استطاعت الأحزاب الدينية أن تقود العملية السياسية في العراق وتتحكم في شؤونه وأصبح بيدها مفاتيح كل الشؤون العراقية. أما في البحرين فالوضع لا يختلف عن العراق أو عن الكويت فالفتاوى التي يطلقها “آيات الله” في إيران تلقى صدى واسعاً في صفوف الجمعيات السياسية “الأحزاب” التي تتدثر بالدين في هذه البلدان. فجمعية الوفاق لم تدخل البرلمان في نسخته الأولى بناء على فتاوى صادرة من مرجعيات إيرانية في هذا الشأن، كما إنها دخلت البرلمان في نسخته الثانية بموافقة مرشدها الوكيل الحصري للمرشد الأعلى في إيران، وانقلبت على الدستور والنظام السياسي وانسحبت من مجلس النواب بناء على أوامره أيضاً؛ لأنه هو من يحدد لها الطريق الذي تسير عليه ويرسم لها خطة العمل. إذاً هؤلاء دخلوا الديمقراطية من أجل أن تكون السيادة فيها للولي الفقيه. ولذلك يحق لنا القول إن هؤلاء لا يؤمنون بالديمقراطية وهم ركبوا موجتها؛ لأنهم وجدوا فيها ما يحقق مآربهم ومتى تحققت أهدافهم فإنهم أول من يدوس على الديمقراطية ونحن في البحرين نعرف أكثر من غيرنا. فتجربتنا معهم علمتنا ذلك. أخيراً، نقول للكاتب القدير طارق الحميد لا تنتظر من هؤلاء رداً أو إجابة لتعلم هل هم إصلاحيون حقيقيون، أم خمينيون، لأنهم في الحقيقة كلهم خمينيون.