غيب الموت، مساء الأربعاء الماضي الموافق 6/6 / 2012، مؤلف روايات الخيال العلمي «راي برادبري»، عن عمر يناهز 91 عاماً، وهو المعروف لدى شباب الستينات من القرن الماضي بروايته التي كتبها في مطلع الخمسينات، وتحولت إلى فيلم في منتصف الستينات «فهرنهايت451»، التي اعتبرت حينها فتحاً في كتابات الخيال العلمي التي ولع به برادبري منذ صباه، عندما بلغت به الجرأة، وهو لم يتجاوز الإثني عشر ربيعاً أن يكتب «جزءاً متماً لقصة كتبها المؤلف إدغار رايس بوروس». لكن برادبري من جانبه كان يدعو قراءه باستمرار على أن «ينظروا إلى رواياته على أنها خيالية بحتة، نافياً بذلك انتسابها إلى رؤى علمية». وربما تكون «فهرنهيت 451»، هي التي تقف وراء إشتهاره، لكن مجموعته القصصية «الرجل المصور»، التي تضمّ 18 قصة في مجال الخيال العلمي، كانت، كما يقول عنها حفيدة «من بين الأفضل لديه». وهي أيضا الكتاب المفضل لحفيده الذي «طلب من محبي برادبري، حالماً علم بموته، العودة إلى مقتطفات من الكتاب، كان جده يفضلها على غيرها». وإذا ما أردنا الغوص بعض الشيء عند روايته « فهرنهايت 451»، التي أعطته الشهرة التي يستحقها كأديب مبدع سابق لعصره بأجيال، فهي وصف إستقرائي تتنبأ بالشكل الذي ستأخذه العلاقات بين أفراد مجتمع «تستخدم فيه الحكومات أقسام إطفاء الحرائق لإضرام النيران في الكتب حتى تبقي شعوبها في غياهب الجهل، كما تتفشى فيه العنصرية لدرجة تدفع الكثيرين إلى الهجرة إلى كواكب أخرى» وقد إختار برادبري العنوان إشارة إلى درجة الحرارة التي يحترق فيها ورق الكتب، وهي 451 فهرنهايت. وبخلاف الكثيرين غيره، يضع الناقد السينمائي إبراهيم العريس رواية «فهرنهايت 451»، في خانة «الروايات المستقبلية، سواء كانت خيالاً علمياً أو لم تكن» ويرى فيها «مع روايتي (1984) لجورج أورويل، و (عالم جديد شجاع) لآلدوس هاكسلي، ثلاثية تعبّر أول ما تعبر عن مستقبلات لا يكون للفكر أو لأحلام الفرد فيها مكان». ويزيح العريس رواية برادبري تلك، من فئة الخيال العلمي، كي يضعها في خانة ما يطلق عليه هو «الخيال السياسي». ولمن يريد االتوصل إلى توصيف الرواية، نلفت إلى أن الخيال العلمي (Science Fiction‏)، «هو نوع من الفن الأدبي قوامه التصورات أو الافتراضات العلمية وأثرها على المجتمع الإنساني أو حتى على كائنات خياليّة. غالبا ما يكون الإطار الزماني لرواية الخيال العلمي في المستقبل القريب أو البعيد. أمّا الإطار المكاني فيمكن أن يكون على الأرض أو على إحدى الكواكب السيّارة أو في أي بقعة من الكون أو حتى في أماكن خيالية كالأبعاد المتزاوية. والرواية العلمية تتميز بما تحفل به من مغامرات تحبس الأنفاس». ويلفت العريس إلى أن إختيار برادبري لمهنة الشخصية المحورية غاي مونتاغ، كي يكون إطفائيا، ربما فيها إشارة ذكية من الكاتب، لما يريد أن يوصل قارئه إليه، فالإطفائي، كما يقول العريس هو (Fireman ) ومن ثم فربما تكون مهمته، في بعض المجتمعات الإستبدادية «هي إحراق الكتب، ومن هنا نراه خلال الأقسام الأولى من الرواية ضمن دوريات تجول بين الأحياء والبيوت لتضرم النار في أي كتاب أو مكتبة يتم العثور عليها». هناك مشاهد كثيرة، أصر فيها برادبري على إبراز بشاعة النظام الشمولي الذي سيسيطر على العالم، ويحذر من مغبة تسلط فئة قليلة على مقدرات الأمور، وسلبها لأبسط الحقوق من مواطنيها، بما في ذلك حقهم في القراءة، دع عنك التفكير. يجسد برادبري ذلك في حوار مطول، في رواية «فهرنهايت 451»، يجري بين رجل المطافئ ورئيسه الذي لا يكف عن تحريضه، كي يكره الثقافة والقراءة، فنجده يقول له «كلمة مثقف صارت سبة كما يجب لها أن تكون، تذكر كيف كنت في طفولتك تكره الصبي الذكي في الصف، وتختصه بالضرب والتعذيب بعد الدراسة .. إنه خوفنا المبرر من أن نكون أقل من الآخرين .. خذ صراعاتك إلى المحرقة يا مونتاج.. النار تحل كل شيء.. النار نقية طاهرة «. هل كان برادبري يحذرنا من إحتمالات غرق المجتمعات في حالة من الجهل، والأمية تهدد بالقطيعة مع الثقافة، وفي القلب منها القراءة. للعلم فقط تقول إحصائية صدرت عن منظمة اليونيسكو في مطلع العام 2009 « أن في عالمنا العربي هناك حوالي 70 مليون شخص أمي». والمقصود بالأمية هنا تلك التقليدية التي لا يحسن ضحاياها الكتابة ولا حتى القراءة، دون أن تشمل الأمية الرقمية. وللمقارنة فقط، تجدر الإشارة إلى أن رواية «فهرنهايت 451» التي صدرت طبعتها الأولى في الولايات المتحدة في العام 1953، لم تصل إلى القارئ العربي في نسختها العربية إلا في العام 2008 ، عندما أصدرتها دار الشروق المصرية. وهناك ترجمة أخرى صدرت بشكل مشترك بين وزارة الثقافة ، و المؤسسة العامة للسينما في سوريا في العام 2008، أيضاً. لكن لا يفوت على برادبري أن يلفت إلى أنه مهما بلغت درجة الإستبداد والقمع التي يمكن أن تلجأ لها سلطات المجتمع «الفاشي»، الذي رسمت معالمه بدقة متناهية رواية « فهرنهايت 451»، فلا بد أن تجد من يقاومها ويرفض الخضوع لها، وهو الموقف الذي جسدته في الرواية تلك السيدة العجوز التي أصرت على البقاء في « مكتبتها وبيتها المحترقين مفضلة ان تحترق معهما، مشعلة عود الكبريت بنفسها». ولربما أوحى عنوان الرواية، «فهرنهايت 451»، كما ينقل عن د. أحمد خالد، لمبدع معاصر آخر هو مايكل مور، كي يختار (فهرنهايت 911) عنوانا لفيلمه الشهير الذي يهاجم عصابة بوش (الرئيس الأمريكي) بضراوة.. حيث استطاع بأنفه الحساس أن يشم رائحة ذلك العالم الشمولي الكابوسي الذي تتحدث عنه الرواية ..... حرارة ما جرى في 11 – 9 كانت هي الدرجة المناسبة لحرق ملكة النقد والتعقل لدى الأمريكيين». كان برادبري، كما يقول عنه البيان الذي نقل نبأ وفاته، «كاتباً غزير الإنتاج، نشرت المئات من القصص القصيرة وكتب نحو 50 كتاباً فضلاً عن العديد من القصائد والمقالات والمسلسلات والمسرحيات التلفزيونية، والسيناريوهات، ويعد واحداً من الكتاب الأكثر شهرة في عصرنا»، كما أنه متعدد المواهب الأدبية، فهو أيضاً من كتب «السيناريو مع جون هيوستن للفيلم الكلاسيكي (موبي ديك)». كما تحولت 65 من قصصه إلى نصوص مسرحية تلفزيونية أهلته لنيل «جائزة إيمي عن المسرحية التلفزيونية» عن رويته «شجرة عيد القديسين». ولمن يريد معرفة علاقة برادبري بالقراءة، ومكانتها في نفسه، ودرجة تقديسه لها، عليه العودة لمقولته الشهيرة، «إذا كنت تعرف كيف تقرأ، تكون أكملت تعلمك عن الحياة، ومن ثم تعرف كيف تعطي صوتك في سياق الديمقراطية. ولكن إذا لم تكن تعرف كيف تقرأ، فإنك لن تعرف كيف تقرر، وهذا هو الشيء الأهم في بلدنا، نحن ديقراطية قراء ويجب أن نحافظ عليها على هذا النحو».