كثيرون كتبوا عن السعادة، وهناك مقالات عدة ومؤلفات لا تنتهي، كلها تتناول السعادة كموضوع رئيس، من خلال التطرق إليه، للناس نصائح وإرشادات تقع تحت خانة الإجابة عن السؤال: «كيف تعيش سعيداً؟!».

إن كنت تريد أن تقضي وقتك تقرأ وتقرأ بحثاً عن فهم الكيفية للوصول إلى السعادة، فلربما تخلص إلى بعض النصائح والتوجيهات التي باتباعها قد تضفي السعادة على حياتك، لكنني شخصياً أؤمن بأن تجارب الحياة «الحقيقية» ومعرفة قصص شخوص أمامنا يسيرون وبيننا يعيشون، والسعادة «ديدن» ملازم لهم، هي أفضل «وصفة» لمعرفة الطريق الصحيح نحو السعادة. أولاً لنستوعب أن الوصول للسعادة عملية لا تتم وفق رصد وكتابة نقاط وتعليمات نقوم باتباعها حرفياً، إذ هي ليست «حمية غذائية» ولا «إرشادات صحية»، هي عملية تتولد من القناعة بأهمية وجودها في حياتنا. أسطورة «جلجامش» بنيت على محاولات البطل الأسطوري الذي جاب الأرض بحثاً عن «إكسير الخلود»، ظناً بأن السعادة البشرية تكمن في هذا الخلود، لكن خلاصة الرواية تبين العكس تماماً، الخلود قد لا يجلب لك السعادة الأبدية، وحياة طبيعية تعيشها هانئاً قد توازي قروناً تعيشها في هم وغم وتعاسة.

كثيرون يَرَوْن في «المال» و«الغنى» أساساً للسعادة، وفي هذه المسألة وجهات نظر واختلافات، الأساس هنا أن المال «مصدر» و«وسيلة» وليس «غاية»، ولذلك المفارقة الكونية تفيد بأنه كم فقير أو متوسط الحال يعيش سعيداً أكثر من فاحش الثراء والغنى؟! والبعض يدلل هنا على أمور أمامها المال لا يساوي التراب، فمثلاً قد يدفع الغني كل ما يملك لاستعادة صحته والشفاء من مرض عضال أو قاتل، قد يحسد هذا الفقير أو ذاك على صحته، وإن أمكنه مقايضته بكل ما يملك مقابل صحته لفعل، بل دفع أموال الدنيا لن تعيد لي «ثانية» مضت من حياتي، إن ذهبت فلن تعود. كثيرون يدركون بعد فوات الأوان أن النهاية تكون في كفن وتحت التراب، لن تذهب بشيء معك ولن تأخذ ما ملكت، جميل أن تؤمن المستقبل لأبنائك، لكن شريطة أن تؤمنه وأنت سعيد لا تعيس وقلق وخائف على المال وهمك تكديسه، لأنك إن فعلت فإنك قد تسعد من يرثك وتنسى سعادتك، ورغم أنها مسألة طبيعية تلك المعنية بصون ورعاية من تعيله، لكنها يجب أن تأتي بتوازن تحرص فيه على سعادتك وسعادتهم معاً، لذا نرى الشواهد الواقعية تقول إن كثيراً من ورثة الأغنياء قد يستهترون بالمال الذي جمع بجهد أسلافهم أو يبعثرونه على أمور تسعدهم أو ترفه عنهم، وقد يقول قائل إن السبب كونهم لم يتعبوا فيه، لكن في المقابل هناك من سيقول إنهم أدركوا تصنيف المال على أنه «وسيلة للسعادة» وليس غاية لها.

عموماً، لماذ ينام بعض الفقراء قريري العين، في المقابل ينام بعض الأغنياء قلقين؟!

الإجابة بسيطة جداً، لأن معيار السعادة مختل، وفهم السعادة فيه لبس، وهي مسألة لا تنسحب فقط على المال، لكننا ركزنا عليه لأنه كما يصفه الكثيرون «عديل الروح»، لكن هناك جوانب عديدة في الحياة كلها إن أديرت بذكاء وحصافة ستجلب لك السعادة حتى لو كنت على «قد الحال». أهم هذه الأمور تتمثل بالقناعة، هذه القيمة «الذهبية» التي وصفتها أمثالنا القديمة بأنها «كنز لا يفنى»، فالقنوع بما قسمه الله له، هو شخص دائماً تجد لديه «السلام الداخلي» في نفسه، والذي بناء عليه لا تجد فيه صفات «تحرق» النفس من الداخل، مثل الحسد والغيرة والحقد والكيد للآخرين، بل على العكس تجد القنوع سعيداً، ويحاول نشر السعادة في محيطه ووسطه وتراه ساعياً لأن يكون الناس سعداء. هناك أشخاص أكرمهم الله بالثروة والحياة الخالية من المنغصات، فكان ردهم الشكر للمولى عز وجل عبر سعيهم لإسعاد الآخرين، وهذه ميزة لا تصدر إلا عن شخص قنوع. أمراض النفس، وضياع «السلام الداخلي» لدى الفرد، أمور تجعل صاحبها يعيش في تعاسة، حتى لو ملك جاه قارون، فقط حينما تتغلغل آفات مثل الحسد والغيرة وكره الخير الحاصل للآخرين، اعرف أنك لن تكون سعيداً. حينما تنسى أهمية القناعة وتؤمن بما كتبه الله لك، فاعرف أنك لن تكون سعيداً، لأن حياتك ستكون مرتبطة بل قائمة على حياة الآخرين، تنظر لحال هذا، وتتابع حياة ذاك، وعقلك الباطني يوسوس لك بمستوى يطغى على وسوسة الشيطان نفسه، بأن لماذا هو ولست أنا؟ لماذا الغنى له وليس لي؟ لماذا المنصب له وليس لي؟ متناسياً بأن «الدنيا أرزاق» و«الحياة أقدار» يوزعها المولى عز وجل بحكمته.

وأخطر آفة يمكن أن تأكل فيك وتنخر داخلك بشراسة هو أن تترسخ لديك قناعات «سرطانية»، بأن نجاح فلان هو فشل لك، وأن سعادة فلان تعاسة لك، حينها سترى الدنيا مظلمة في كل شيء، وحتى لو فتح الله عليك ورزقك وأكرمك ستظل تعيش حياتك في «سوداوية»، وتتصرف «بعدائية» تجاه الكثيرين، حتى إن لم تظهرها لكنها ستأخذ حيزاً بداخلك تؤثر سلباً على كيانك، وتقضي على أي فرصة لتحظى بالسلام الداخلي.

بالتالي السر هنا يكمن في القناعة، وفي الفرح وتمني الخير للآخرين، وأن تقرن ذلك بدعائك لله بأن «يبارك لهم ويرزقك خيراً كما رزقهم»، لا تحسد ولا تحقد ولا تكره، ابحث عن السعادة في كل وقت، في البيت والعمل ومع أصدقائك، حاول أن تصل لمرحلة متقدمة في ذلك، بأن تبحث عن السعادة حتى في أعنف درجات الألم. أنت من يصنع سعادتك، لا الأدوات والوسائل المادية، وإن ملكتها وظفها في تحقيق سعادتك وانشر السعادة في محيطك، اعلم أن الرزق كتبه الله لك ولن يمنعه أي بشري عنك إلا بأمر رب العباد، كن قنوعاً ترَ الكون جميلاً، وثق دائماً بمن خلقك وقدر الأمور لك، ومن أعظم من الله سبحانه، فكر بأن لك رباً أبواب رحمته أكثر عدداً وأوسع من باب عذابه، فقط التفكير بذلك يجعلك تخطو أول خطوة على درب السعادة.

أتمنى لكم حياة سعيدة، سعادة تبدأ من النفوس قبل الجيوب!