في الوقت الذي نفخر فيه بحياة آبائنا وأجدادنا وكيف كانت حياتهم بسيطة في المأكل والمشرب والملبس مع قناعات وسعادة بهذه الحياة، إلا أنه في ذات الوقت وبسبب رياح التغيير التي هبت علينا وما سمي بـ «عصر العولمة»، انحرفنا عن مسارهم ودخلت علينا متغيرات كثيرة من الخارج، سواء في أنماط حياتنا أوسلوكياتنا، ولعل أهمها، النزعة نحو الإسراف والتبذير في كثير من الأشياء التي نستخدمها في حياتنا، حتى أصبح مجتمعنا استهلاكياً، وإن قال البعض إنها نتيجة للألفية الجديدة، إلا أن ذلك لا يمنع من أن نقول إننا مسؤولون عن ذلك.

ولظاهرة الإسراف والتبذير في حياتنا اليومية خصوصية، حيث إنها ناتجة عن أمراض اجتماعية أهمها التفاخر الاجتماعي وتقليد بعضنا البعض، دون أن يعرف كل مستواه الاقتصادي الحقيقي، وإن الله سبحانه وتعالى قسم الأرزاق بين الناس، حيث يقول الله تعالى في كتابه الحكيم «وهو الذِي جعلكم خلائِف الأرضِ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فِي ما آتاكم إِن ربك سرِيع العِقابِ وإِنه لغفور رحِيم»، «سورة فاطر: الآية 39».

ظاهرة الإسراف والتبذير أفقدت الأشياء قيمتها وأهميتها وتداخلت حتى أصبحنا لا نميز بين الضروريات والكماليات، ولذا أصبحت غالبية الأفراد تشكو من القروض والديون وقلة المردود المالي وهذا مبعثه سوء التخطيط والتوزيع سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المؤسسة.

مخجل أن يستبدل البعض سيارته تبعاً للمزاج الشخصي، ومحزن أن ترصد معظم النساء ميزانية ضخمة لملابسهن ومجوهراتهن تبعاً للموضة ولذوقهن المتقلب، فصار لكل شيء «ماركة»، حتى الصحون والأكواب! ولا يمكن أن نغفل عن بعض الشباب وشغف البحث عن الساعة «الماركة»، والقلم «الماركة»، وغيرها. أما أطفالنا فلذات أكبادنا فهم ضحية إرادتنا وخضوعنا لهم في تحقيق رغباتهم كالهواتف الذكية وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي. أصبح الكل يهرول برجليه لاقتناء ما لا حاجة ملحة له، الغرب ينتج ونحن نستورد، خدعة فرضت نفسها باسم الـ «ماركة».

أما عن الحفلات، فحدث ولا حرج، فمظاهر البذخ في حفلات الزواج تكتسح ما في الجيوب والبنوك فلا تبقي ولا تذر، وظهرت علينا مسميات لم نعرفها سابقاً، مثل حفلة لوداع العزوبية، وأخرى لاستقبال العروس في بيتها، وأخرى لاستقبال مولود جديد، حفلات ومناسبات ما أنزل الله بها من سلطان، بعيدة كل البعد عن هويتنا وثقافتنا العربية الإسلامية.

ينسحب هذا الإسراف على بعض الجمعيات والمؤسسات سواء كانت أهلية أو رسمية، حيث ترصد ميزانية ضخمة لفعاليات لا تستلزم مثل هذه المصاريف مما يؤثر سلباً على أكثر من بند من بنود الميزانية الخاصة بها أو الميزانية العامة للدولة.

لماذا لا نتعلم من المجتمعات المتقدمة التي استطاعت أن تشق طريقها عبر التخطيط الحكيم والدراسة العلمية والاحتياط للمستقبل، فهذبت صغارها منذ نشأتهم على كيفية استغلال المصروف اليومي، وفهم عملية الشراء وقيمة المادة، وتقدير الأولويات حتى ينشأ عضواً فاعلاً يندرج في مجتمعه، متفهماً معنى الحاجة والإشباع، مدركاً معنى الاستهلاك ومقدراً قيمة الأشياء التي تعطى له، ومجتمعنا ـ للأسف ـ يفتقر إلى هذا النوع من التفكير والتربية، وهذا يعود إلى رغبة البعض في المباهاة وحب الظهور لإشباع ثغرات نفسية ناقصة فيه.

لماذا يحدث كل ذلك وديننا الإسلامي يحثنا على الاعتدال في المعيشة وعدم الإسراف والتبذير؟ يقول د. عبد الله النجار الأستاذ بجامعة الأزهر، وعضو مجمع البحوث الإسلامية «الإسلام ينهانا عن الإسراف والتبذير، ويأمرنا بالاقتصاد والتوسط والاعتدال في المعيشة حيث لا إفراط ولا تفريط وقد وردت دعوة ديننا الإسلامي الحنيف إلى عدم الإسراف والتبذير في العديد من الآيات القرآنية»، منها قوله تعالى: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين»، «سورة الأعراف، الآية: 31». كما وردت دعوة - عدم الإسراف والتبذير - في العديد من الأحاديث النبوية، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة». وختاماً رحم الله الشيخ محمد عبده عندما زار فرنسا وبريطانيا قال بعد عودته «وجدت الإسلام ولم أجد المسلمين»، اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد.