يحتفي العالم اليوم باليوم العالميّ للصحّة النفسيّة، ويسلّط الضوء هذا العام على موضوع «الصحّة النفسيّة في مكان العمل»؛ لتؤكد منظمة الصحة العالمية - بالتعاون مع شركائها - من خلاله على الصلة الوثيقة بين بيئة العمل والسلامة النفسيّة. فمع وجود ما يقارب من 60% من سكّان العالم يمثّلون القوى العاملة على وجه هذه البسيطة، لا يقتصر أن تكون مواقع العمل مجرّد أماكن للإنتاجيّة؛ بل هي أيضاً نقاط اتّصال حيويّة قد يكون لها تأثير إيجابيّ أو سلبيّ على الصحّة النفسيّة للأفراد.
تعمل بيئة العمل الآمنة والصحّيّة كعامل وقائيّ قويّ لتعزيز الصحّة النفسيّة. عندما تخلق المؤسّسات ظروفاً تعزّز الشعور بالانتماء وتوفّر الدعم، وتضمن أعباء عمل معقولة وعادلة، فإنّها لا تستثمر في الصحّة النفسيّة لموظّفيها فحسب؛ بل تعزّز أيضاً الإنتاجيّة والمشاركة بشكل عامّ.
وفقاً لمنظّمة الصحّة العالميّة، فإنّ أماكن العمل الّتي تعطي الأولويّة للصحّة النفسيّة لموظّفيها تشهد تحسّناً في الأداء وانخفاضاً في التغيّب عن العمل وارتفاعاً في معنويّات الموظّفين. كما وجد تقرير صادر مؤخّراً عن الشركة الاستشاريّة ماكنزي آند كومباني أنّ المؤسّسات الّتي لديها برامج قويّة للصحّة النفسيّة قد سجّلت «زيادة بنسبة 20% في الرضا الوظيفيّ وانخفاضاً ملحوظاً في معدّلات دوران الموظّفين».
وفي المقابل، فإنّ إهمال موضوع الصحّة النفسيّة في مكان العمل سيكون له نتائج عكسيّة. فمثلاً بيئات العمل غير الصحّيّة - الّتي تتّسم بالتنمّر والتهميش والتمييز والمضايقات وغيرها من ظروف العمل السيّئة - تشكّل تهديدات خطيرة على الصحّة النفسيّة للموظّفين؛ يتجاوز تأثيرها معاناة الأفراد إلى النتائج المؤسّسيّة وحتّى على مستوى الاقتصاد الأوسع نطاقاً. وجد تقرير صادر عن الشركة العالميّة الاستشاريّة في مجال التأمين والمخاطر (Marsh) أنّ الصحّة النفسيّة هي ثاني أشدّ المخاطر الّتي يواجهها اليوم أخصّائيّو الموارد البشريّة والمخاطر في العديد من الأماكن، كما تقدر منظمة الصحة العالمية «WHO» أن ضعف الصحة النفسية يكلّف الاقتصاد العالمي تريليون دولار أمريكيّ سنويّاً في الإنتاجية المفقودة.
ممّا يدلّ على أنّ التغاضي عن الصحّة النفسيّة في مكان العمل؛ يخلق تأثيراً مضاعفاً قد يقوّض الابتكار، ويقلّل من الحافز، ويضعف أساس ثقافة مكان العمل الداعمة.
من الأهمّيّة بمكان أن نُدرك أنّ الاهتمام بموضوع الصحّة النفسيّة في بيئة العمل لم يَعُد ترفاً أو مجرّد مسؤوليّة أخلاقيّة؛ بل أصبح ضرورة استراتيجيّة. كما لا يمكن الإغفال عن دور قادة الأعمال في تعزيز ثقافة عمل شاملة ومتعاطفة في مؤسّساتهم. أظهرت أبحاث غالوب أنّ الموظّفين الّذين يشعرون بالتقدير والاحترام من قِبل قادتهم؛ هم أكثر انخراطاً في العمل والتزاماً تجاه مؤسّساتهم. ولا شك في أنّ القادة الّذين يعطون الأولويّة للصحّة النفسيّة يساهمون في بناء بيئة يصبح فيها التواصل المفتوح والثقة والدعم هو القاعدة وليس الاستثناء.
يتطلّب خلق ثقافة تدعم الصحّة النفسيّة اتّخاذ تدابير استباقيّة. وهذا يعني تنفيذ سياسات شاملة تعطي الأولويّة للصحّة النفسيّة، وتعمل على توفير مساحات لطرح ومناقشة القضايا المتعلّقة بالصحّة النفسيّة داخل مكان العمل، بالإضافة إلى تدريب كوادر الموظّفين -من مختلف المستويات- على كيفيّة اكتشاف أيّ بوادر أو اعتلالات في الصحّة النفسيّة في مكان العمل كالقلق والاكتئاب والتوتّر وطرق التعامل معها، مع ضمان التوازن الصحّيّ بين العمل والحياة، وخلق ثقافة تهيّئ السُبل للموظّفين للاستماع إلى احتياجاتهم، وتتيح لهم الوصول إلى الموارد اللازمة لتعزيز صحّتهم النفسيّة والعقليّة. كما يُمكن أيضاً تقييم مدى نجاح هذه الجهود وإجراء التغييرات عند الحاجة من خلال مراقبة إحصاءات الصحة النفسية بشكل منتظم.
بينما نتأمّل في موضوع اليوم العالميّ للصحّة النفسيّة لهذا العام، يجب أن نتذكّر أنّ حماية الصحّة النفسيّة في مكان العمل هي مسؤوليّة مشتركة. كما أنّ زيادة الوعي حول الصحة النفسية وتتبّع إحصاءاتها في مواقع العمل المختلفة وخلق ثقافة تمكّن الموظّفين من إعطاء الأولويّة لصحّتهم النفسيّة هو استثمار استراتيجيّ يؤتي ثماره في رفع الإنتاجيّة وتقليل التغيّب عن العمل وزيادة مشاركة القوى العاملة، ممّا يضمن ازدهار الأفراد والمؤسّسات على حدّ سواء.