إن كنت مليئاً بالمعرفة والثقافة والمهارة، فكل ذلك غير مهم، لأن المهم لم يَعد يتعلّق بخبراتك وما تحمله من مهارات ومعارف، بقدر ما يتعلّق بكيف تبيع نفسك! أو بعبارة أدقّ كيف تسوّق نفسك، فحولك كثير من الفارغين الماهرين المحترفين للعبة تسويق الذات، أو ربما لا يجيدون شيئاً آخر غيرها، ويتربعون على عرش صدارة المشهد، في الوقت الذي يجلس فيه المليء في آخر الصفوف، ليتابع المشهد الهزلي، حتى ينتهي به الحال إلى الانعزال والبقاء منسياً في زاوية مظلمة، فقط لأنه ترفّع عن تسويق نفسه، وربما لا يمتلك تلك المهارة من الأساس.
محترف تسويق الذات ذلك الشخص الذي قد لا يتمكن من كتابة جملة صحيحة، أو لا يتمكن من تنفيذ إجراء محدد وواضح، لكنه متمكن من الظهور بمظهر من ينتظر استلام جائزة نوبل التي لا ينافسه عليها أحد، وكل ذلك يحققه بصورة أنيقة ومقطع فيديو يطلق فيه عبارات رنانة قد لا يفهم منها شيئاً، ولكنها تجعل منه مفكر العصر، زر حسابه على «لينكد إن» ستجده مكتظاً بعبارات مثل «رائد الأعمال الشاب»، «مفكر مبتكر»، و«صانع الفرق»، لكن لا تطلب منه تقديم حل بسيط لأي مشكلة لأنك لن تحصل على شيء مفيد، ومع ذلك هو بارع في تسويق نفسه، بطل في كل ميدان، يحدثك بكل فخر واعتزاز عن إنجازاته العظيمة التي حققها، مع أنه لا إنجاز فعلياً له، لكنه يتحدث وكأنه مطور خوارزميات وسائط التواصل الاجتماعي، يحافظ دوماً على صورته لامعة، لكنك إذا طلبت منه فعل شيء، ستحصل على آخر وقد لا تحصل على شيء، ومع ذلك يضيف «إنجازاً» إلى إنجازاته، لأنه بدل أن ينشغل بما طلبته منه، توجه إلى حساباته في وسائط التواصل الاجتماعي وبدأ يلتقط الصور ويتحدث عن «العمل الجاد» والاجتهاد، بينما هو لم يتحرك من كرسيه ولم يترك تصفح تطبيق تيك توك أو غيره، شعاره «شاهد صور تألقي».
في الجانب الآخر يقف نموذج مغاير في كل شيء، مليء، مبدع، صاحب مهارات وإنجازات حقيقية، يقضي أغلب وقته في العمل، يقدم الحلول لكنه لا يجيد «بيع نفسه» ويترفع عن الحديث عن إنجازاته، وإن طلب منه الحديث، تحدث عنها بتواضع، لا يعرف «البوستات» اليومية، و«الحالة» على وسائط التواصل الاجتماعي، يظن مخطئاً أن عمله سيتحدث عنه، وأن صاحب العمل أو من هو أعلى منه يعرف جيداً التمييز بين الناس، ومع ذلك في أحسن الأحوال يبقى في الظل، وفي أغلب الأحيان ينتهي به المطاف خارج المشهد يراقب الفارغين وهم يتألقون.
في زمن غابر كان العمل يتحدث عن صاحبه، وكانت الشعارات السائدة في تلك الفترة «اعمل بصمت» و«دع عملك يتحدث» لكن ذلك كان في عصر ما قبل التسويق الرقمي.
يا عزيزي، في عصر التسويق الرقمي اللعبة اختلفت، فمعيار المليء والفارغ، بات في خبر كان، وحل محله معيار «أصرخ بما لديك» و«سمعني الجعجعة حتى وإن لم يكن هناك طحين» وصاحب عملك أو من هو أعلى منك، إن كان من الذين لديهم القدرة على التمييز بين من يعمل ومن لا يعمل، فهو في النهاية يفضل الفارغ المتألق، على المليء الخافت، لأنه يدرك أن اللعبة تغيرت في العالم كله وأنه بحاجة إلى البقاء والانتشار، والفارغ المتألق هو أداة فاعلة لتحقيق الغرض.
نقطة الفرق المهمة بين النموذجين، هي القدرة على تسويق الذات، نعم الفارغ بلا مضمون لكنه قادر على الوصول إلى الناس وبيع اللاشيء لهم، والمليء الخافت لديه ما يبيعه وله قيمة لكنه ينتظر من الناس أن تأتي إليه وتشتري منه، لكن الواقع يؤكد أن كل قيمة مخفية أو لا تذهب بنفسها إلى الآخرين لن يقدرها أحد، لذا عندما ترى فارغاً يتألق تذكّر قبل أن تسترسل في انتقاده والحديث عن فراغه، أنه الأذكى في تسويق اللاشيء، وأن الأضواء لا تُسلّط على من يستحقها، بل على من يعرف كيف يقف تحتها.. أصرخ بما لديك أو ابقَ في الظلام.
* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية