أيقنت في لحظة من لحظات تلك السنوات التي خلت، أنه باستطاعتي أن أكتب سطور «المسير» وأخط مواقف الأثر ولحظات العطاء وسطور التأمل التي عشتها منذ سنوات الطفولة الأولى، ومنذ ملامح تلك اللحظات التي تعلمت فيها كيف أكون عضواً ناشطاً في الحياة، وكيف أستطيع أن أحقق متطلبات خلافة الله -سبحانه وتعالى- في الأرض، وكيف أكون معلم الخير الذي يدل الناس على طريق التقدم والنمو، وكنت أستدل في أسلوبي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين، حتى النملة في جُحرها، وحتى الحوت، ليُصلُّون على مُعلّم الناس الخير». كنت على موعد بتضمين أسلوب الحياة ببعض القيم الثابتة التي لا أحيد عنها في خطوات المسير، والتي أعدها أساس الإنجاز والعطاء، أهمها أن أكون عملياً في العطاء، وفي تنفيذ الأفكار والمشروعات، حتى لا تفوتني فرص الخير، وحتى أواكب سرعة انقضاء الأوقات، وألا أنشغل بتفاهات الاجتماعات الفارغة، وأسلوب المتابعات العقيمة لخطط التنفيذ، والالتفات بالتطبيق العملي بدلاً من (التلميع على الجدران)؛ فالأهم أن تحقق مقاصد حياتك وأهدافك النبيلة بالجودة المعقولة، وألا تُسرف فيها؛ لأن الإسراف يُعطل الركب، ويقلل من الوصول إلى الأهداف المرجوة.
أما القيمة الأخرى التي آمنت بها فهي (المُبادرة الآنية)، بأن تكون في بداية الركب بدون أن تنتظر التوجيه، وأن تكون الآية الكريمة ضمن مقاصد حياتك «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنّة عرضها السماوات والأرض أعدت للمُتقين». وكما قيل في تفسيرها: «المُبادرة إلى فعل الخيرات والمُسارعة إلى نيل القُربات». ثم التمني الأكبر لكل المقاصد بسؤال الفردوس الأعلى كما أخبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفها عرش الرحمن». فيا جمال هذا المنظر، ويا جمال المُسارعة والدعاء بالظفر بالفردوس، يُحفزك لأن تكون سبّاقاً في عمل الخير، مُبادراً في كل عطاء، مُتعبداً في محرابك في أوقات الخلوات، ساجداً مُطمئناً في سويعات العبادة. هكذا خطها أحد المشايخ في (خاتمه) الذي يلبسه باستمرار (الفردوس الأعلى) حتى لا يتثاقل عن الطاعة، ولا يستثقل كل خير يُقربه إلى تلك المرتبة العليا. مرتبة تحتاج إلى المنافسة وعدم التقاعس والحذر من الركون إلى الدنيا أو الجري وراء الشهوات ومُضيعات الأوقات.
عندما تستذكر المواقف تُعطيك الفرصة لتكون «فارساً للخير» في كل ميدان، فترسم أثرك في كل ميدان تعلّمت أن تُعطي فيه، وتتذكر أن الكون الفسيح هو كله ميدان للخير تستطيع أن تترك أثرك، وتكتب سيرتك في كل مساحاته. إنه الفارس الذي لا يرتاح أبداً ولا يترك للفراغ مجالاً، دون أن يستثمره في الخير. قبل أن تقام الصلاة أمسك بيدي أحد المُصلين، وذكرني (بخاطرتي المُعتادة) التي اعتدت تقديمها بعد صلاة العشاء في يومين في الأسبوع: «أين؟ افتقدنا كلماتك الطيبة». شكرته على التواصي، وتذكرت سورة العصر: «والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر». وبعد الصلاة مُباشرة وجهّت خاطرتي للقلوب وكأني كتبتها من قبل، فذكرت نفسي أولاً، واستذكرت مواقف الأثر، وقلت هذه إحدى القيم التي يجب ألا تترك. أما ذلك الصبي الصغير، فكان في كل مرة يُتابع معي أوقات الحلقة، فكان لا يتغيب عنها أبداً، إلى درجة حرصه عليها بعد صلاة الفجر ومكوثه حتى الشروق.
العديد من الميادين الكونية يجب أن تحافظ على أُثرها، وتجدد العطاء في خطواتها ما دمت تتنفس الخير، وتجعلها أنفاساً لك في كل خطوة، تبدأ بها بأذكار الصباح بعد الفجر «من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله» ثم تنطلق لأن تكون أثراً في سويعات يومك السريعة. ولأنها سريعة الانقضاء كان لزاماً عليك أن تكون فيها مؤثراً في كل ميدان، ولا ترضى بأن تمر عليك أي مساحة، دون أن تترك فيها بصمتك المؤثرة، وخبرتك التي تعلمتها طيلة سنين العمر. والأهم من ذلك ألا تشغل نفسك بميادين تستهلك فيها وقتك وجهدك بلا فائدة مرجوة، بل الأهم أن تنتقل بأثرك إلى المساحة الكبرى في العطاء والتأثير والتدريب على أثر الخير.
تفنن في أسلوب العطاء، وتعلم مهارات الحياة، وتعلم كل جديد، وقدّم جهدك لعمل الخير واجعلها زكاة علمك وخبرتك، والإرث التي تعلمته من سابق الزمان. لا تكثر من الشكوى والتذمر والنقد اللاذع لكل فكرة، فإنك ستنسى مع الزمن، ولكن ليكن موطئ قدم في ساحة الإنجاز. إنها ساحة قائمة على التحدي وحسن التصرف وجودة الخير الذي تقدمه الآن، ولا تتعود الإكثار من التسويف والتفكير المبالغ فيه؛ لأنك ستجد نفسك قد تعطلت عن اللحاق بركب التميز.
ومضة أمل
احرص أن تصحب صاحب الأثر المُتعدد في الحياة.