يؤمن معظم أهل البسيطة بأن العلم يُثبت يوماً بعد آخر أن الله موجود، لكن هل يستطيع الاقتصاد أيضاً أن يُثبت ذلك؟.. هذا السؤال طفا على سطح تفكيري حينما كنت أتابع أخبار الاقتصاد العالمي وما يجري بين الشرق والغرب من صراع على "السلطة الاقتصادية" للعالم، والتي كانت تُنسب منذ عقود للولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها اليوم تدخل مرحلة الشك في استمرار تلك السيطرة.
ففي حين تُصعّد أمريكا إجراءاتها ضد واردات الصين وتمنع تصدير الرقائق الإلكترونية إليها، وجدنا قبل أيام إجراءات صينية لفرض قيود على تصدير مواد أشباه الموصلات وهو ما سيُجبر أمريكا على مراجعة إجراءاتها.
وحين بدأت الهند تنتج ألواحاً شمسية بكميات كبيرة، برزت أمريكا مرة أخرى لتفرض عليها شبه حظر أو ما أسمته "تدقيقاً" بزعم ارتباط إنتاج تلك الألواح بالعمل القسري في الصين، ثم تقرّر شركة آبل استبدال الصين كموقع لمنتجاتها لتتحول إلى الهند، وتُعاود الشركات الصينية الرّد بالتلميح إلى أنها قد تبيع أصولاً مقومة بالدولار إذا خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة.
وفي منطقة أخرى من العالم، والتي كانت محسوبة على الغرب، يبرز أيضاً صراع تحت الرماد، بين أمريكا وحلفائها في الاتحاد الأوروبي، حيث بدأت شركات التكنولوجيا الأمريكية العمل على حجب منتجات الذكاء الاصطناعي عن القارة العجوز، بسبب "مخاوف" من قوانين حماية البيانات هناك.
وفي منطقة ثالثة بهذا العالم المتشابك، تحوّلت المكسيك إلى أكبر شريك تجاري مع أمريكا بعد التوتر الحاصل بين الولايات المتحدة والصين، إلا أن الرئيس المكسيكي قرّر فجأة وقف العلاقات مع السفارة الأمريكية رداً على تدخلاتها في موضوع انتخاب القضاة في بلاده بدلاً من تعيينهم.
وهناك من يعتقد أن أزمة الديون في القارة الأفريقية والتي بلغت 1.1 تريليون دولار نهاية العام الماضي، ومعاناة أكثر من 20 دولة من ديون مفرطة، لن تؤثر على بقية العالم، لكن الحقيقة أن الأثر كارثي سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي والسياسي، ويتّسع يوماً بعد آخر، حتى إن الدائنين أعربوا عن مخاوفهم الكبيرة من عدم استرجاع أموالهم.
ويأتي بعد ذلك التوغل شبه العسكري الروسي في أفريقيا بحثاً عن منافع اقتصادية في الأساس، ولإيجاد موطئ قدم بديل عن أوروبا التي تغادر القارة قسراً، بعد تغيّر المزاج الأفريقي تجاه المستعمر القديم وخروج أجيال جديدة ترغب في تغيير حال البلاد الاقتصادي إلى الأفضل.
ثم يتدخل الله بالمناخ ليجبرنا جميعاً على تغيير سياسات الترف الفائق والبذخ في الاستهلاك، حيث تصاعدت أصوات تحذّر من أثر أسلوب حياة البشر على البيئة وعلى الكوكب كله.
وبدأت دول المنطقة بالالتفات إلى أهمية التوازن الاقتصادي مع الغرب باستكشاف الفرص شرقاً، وهذا ما فعلته البحرين في التحركات الأخيرة نحو روسيا والصين.
كل هذه التفاعلات "الكيميا اقتصادية" تؤكد أنه لا يوجد بشر متفوقون على بشر، وإنما هناك من يدير هذا العالم الذي يموج في بعضه، بحكمة وتوازن، وهي في حقيقتها أمور منسقة ومنمقة كالفسيفساء التي لا تظهر صورتها الإجمالية إلا عند النظر إليها من أبعد نقطة في الكون، فسبحانه المقدّر المقتدر.