مع سرعة الحياة اليوم وكثرة الأمور التي تشتت الإنسان وتدفعه للانغماس في اللحظة الحالية، أصبح الجيل الصاعد بذات السرعة؛ فهم جيل يتطلعون إلى النتائج السريعة في كل جانب من جوانب حياتهم، وهم لا يسعون فقط للربح السريع بل يبحثون عن الشهرة والتقدير الفوري، وكأن الزمن قد تحول إلى عدو يجب التغلب عليه، وفي قراءة لي للمجموعة السائلة لكاتبها لزيجمونت باومان، والتي كتبها في وقت كانت فيه الحياة بالنسبة له سائلة جداً، وكان يتوقع أن يزداد سيلان الحياة وحتى سيلان المنظومات القيمية والأخلاقية والتي نستطيع إسقاطها على مختلف أمور الحياة بدءاً من الشعور الشخصي والعلاقات العاطفية وسلوك المستهلكين، والكثير من الأمور، ولكن الجامع لمجموعة «باومان» السائلة هو الشعور السائل في عصر العولمة والسرعة، ومع دخول وسائل التواصل الاجتماعي حياة الناس، وربما أصبحت هي الحياة بالنسبة للبعض بات البحث عن النتيجة السريعة في مختلف الأمور هو العنصر المشترك الأبرز، ولعلّ هذه الحالة تُفسّر من خلال مفهوم «الحداثة السائلة» لباومان، الذي يصور المجتمع الحديث ككيان دائم التغير، يتسم بالسيولة والتقلب، حيث تتبدل الأولويات والقيم بسرعة وتجعل من الثبات أمراً من الماضي. لنأخذ على سبيل المثال عالم التجارة ورجال الأعمال، فنجد اليوم شباباً يقتحمون السوق بمنتجات جديدة يضعون عليها أسعاراً خيالية، ليس لرغبتهم في الاستدامة أو التفوق في السوق، بل لتغطية التكاليف والحصول على ربح سريع، فتجدهم لا يهتمون إن كانت هذه المنتجات تستحق الثمن أم لا، المهم هو النتيجة السريعة التي تكفيهم ليتنقلوا إلى مغامرة جديدة، متجاهلين أن السوق لا يرحم من لا يستثمر في الجودة والابتكار، ولذلك أمثلة كثيرة أبرزها عربات الطعام التي تنافس المطاعم الفخمة والكبيرة بأسعارها. أما في عالم الشهرة، فقد أصبح البعض يعتقدون أن الشهرة هي المفتاح لكل شيء، المال، والسلطة، وحتى الحب، فترانا نجد شاباً أو شابةً يضع كل طاقاته في إنتاج محتوى ركيك على منصات التواصل الاجتماعي، طمعاً في الحصول على متابعين و«لايكات» و«قلوب» تتطاير في الهواء الرقمي، والغاية الأسمى هنا ليست التعبير عن النفس أو تقديم شيء ذي قيمة، بل الوصول السريع إلى الشهرة، دون إدراك أن الشهرة السريعة تأتي مع أثمان باهظة وأحياناً تكون مجرد فقاعة تنفجر بسرعة، تاركة وراءها فراغاً وإنساناً محطماً في عالمه الواقعي بعيداً عن عالمه الافتراضي. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن الشباب أصبحوا يتطلعون إلى ردود الأفعال الفورية على كل ما يقومون به، والبحث عن التقدير السريع، هل نشرت صورة أو فيديو؟ عليك أن تتلقى التفاعل في لحظتها! هل كتبت شيئاً؟ تنتظر في الحال تعاطف الناس ومديحهم ليشبعوا غرورك ويمنحوك جرعة من الرضا الداخلي، فبالنسبة لهم أصبح التفاعل السريع هو مقياس النجاح، بغض النظر عن القيمة الحقيقية لما تم إنجازه. تشير الإحصائيات الحديثة إلى أن نسبة كبيرة من الشباب بين 18 و24 عاماً يعانون من قلق مرتبط بالتفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي السنوات الخمس الأخيرة زادت حالات الاكتئاب المرتبطة بالتكنولوجيا بنسبة تفوق 70% بين الشباب، حسب تقارير متعددة، وهذا الرقم يعكس مدى اعتماد الجيل الجديد على البحث عن الرضا الفوري، والتفاعل السريع، وكأنهم في سباق مع الزمن، وفي حال عدم تلقيهم ما كانوا يطمحون إليه، تجدهم في صدمة حياتية وكأنهم خسروا الحرب لا تفاعلاً على منصة افتراضية. ومن يراقب الشباب اليوم عن كثب سيجد أن شريحة كبيرة منهم يتصرفون كمن يحاول ملء كوب مثقوب، يسعون جاهدين لملئه، ولكنهم يغفلون عن أن الطريق إلى الرضا الحقيقي يحتاج إلى الصبر والجلد، وإلى نظرة أعمق تتجاوز اللحظة الحالية، وبدلاً من البحث عن النتائج السريعة، قد يكون من الحكمة أن يتوقفوا لحظة، وينظروا إلى ما يريدون حقاً من حياتهم؛ فالعبرة ليست في الوصول بسرعة، بل في الوصول إلى شيء يستحق العناء، وعليهم أن يدركوا أن عالم التواصل الاجتماعي هو عالم افتراضي، والعالم الحقيقي هو ما يعيشه في يومه بعيداً عن الشاشات ومن حوله أناسه وأهله.