مؤخراً أحيت اليابان ذكرى ما يمكن وصفه بـ«أبشع مجزرة» في تاريخ الإنسانية، مجزرة حصلت قبل 79 عاماً، حينما ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي لتقتل أكثر من 210 آلاف شخص، وتخلف أضراراً إنسانية وصحية على مئات الآلاف، امتد تأثيرها لعقود طويلة.
إحياء الذكرى أقامته مدينة «ناجازاكي»، وشارك فيه سفراء العديد من الدول، من ضمنهم كان سفير مملكة البحرين. لكن اللافت كان مقاطعة الفعالية من قبل السفير الأمريكي «الذي تسببت بلاده في هذه المجزرة» إضافة إلى بريطانيا وفرنسا، أي حلفاء الأمريكان، والسبب كان عدم دعوة عمدة ناجازاكي للسفير الإسرائيلي لحضور الفعالية.
الموقف سياسي بحت مثلما يمكنكم التوقع قبل قراءة التفصيل الآتي، إذ لمن لا يعرف اليابانيين وتاريخهم، فهم شعب معتد بنفسه، ومتمسك بثوابته، ويتعامل مع الأمور وفق رؤيته هو.
هكذا يتحدث التاريخ عنهم، وما تعرضوا له خلال الحرب العالمية الثانية كانت «كارثة إنسانية» من خصوم لم يتوانوا عن قتل عشرات الآلاف بدم بارد.
إلقاء القنابل الذرية على اليابان كانت بمثابة «التحول المفصلي» في مسيرة هذا البلد الذي يتفنن اليوم في «لي أعناق» العالم تجاهه، إذ بعد الحادثة الشنيعة قبل 79 عاماً، تحولت اليابان من دولة تنخرط في السجالات العسكرية، إلى دولة صناعية وتجارية كبرى، واتجهت لاكتساح العالم بتقدمها العلمي والتكنولوجيا، وباتت اليوم تعتبر دولة من خارج هذا الكوكب لفرط التطور والنظام والتحديث المستمر.
نعود لكواليس الفعالية ومقاطعة الأمريكان وحلفائهم لها، ومسوغات موقف اليابانيين من عدم دعوة السفير الإسرائيلي.
سوزوكي شيرو، عمدة مدينة ناجازاكي تحدث عن هذا الأمر وكأنه يرد على إعلان مقاطعة الفعالية، فقال: «لم ندعو السفير الإسرائيلي، لكننا وجهنا له رسالة ندعو فيها للوقف الفوري لإطلاق النار في قطاع غزة»، وقبلها بأيام أشار سوزوكي لحجم الكارثة الإنسانية وقتل الأبرياء الذي يحصل في فلسطين.
السفير الأمريكي لابد وأن يكون له موقف -كالعادة- يدعم إسرائيل، قرر المقاطعة ومثله فعلت سفيرة بريطانيا ولحقتهم فرنسا، باعتبار أن الفعالية تم «تسييسها» لصالح فلسطين وضد إسرائيل! المخجل في الأمر كله، بأن الدولة التي «تنظر» على العالم بأسره، بل «تتفلسف» في الحديث عن حقوق الإنسان، وهي أمريكا طبعاً، هي التي تبارك اليوم المجازر الحاصلة بحق أشقائنا الأبرياء في غزة، هي التي تحمي آلة القتل والتدمير والوحشية الإسرائيلية وتبرر لها، وهي أصلاً أول من ارتكب جرائم حرب وقتل بحق الأبرياء وباستخدام أسلحة الدمار الشامل مثلما حصل في اليابان.
والله اليابانيون شعب «ذكي»، وما الدعوة التي وجهت للسفير الأمريكي إلا ليرى نتيجة ما فعله أسلافه من «جرائم حرب» بحق البشرية، في حين عدم دعوة السفير الإسرائيلي إلا لعدم الحاجة لوجود عدد أكبر من مجرمي الحرب.
نصيحة لأي شخص، إن جاءك مسؤول أمريكي لـ«يصدع رأسك» بأدبيات حقوق الإنسان ويوجهك بشأنها، فقط أخرسه بذكر «إنجازاتهم الدموية» في قتل الأبرياء، ذكرهم بالإبادة العرقية للهنود الحمر، ذكرهم بالقنابل الذرية في اليابان، ذكرهم بالمجازر في فيتنام، ذكرهم باحتلال العراق وفظائع سجن أبوغريب، وذكرهم بـ»وصمة العار» في جبين الإنسانية وأعني هنا هوائل معتقل «جوانتانامو» الشهير بصنوف التعذيب.
أو الأفضل، لا تذكرهم بأي من هذا كله! فقط ذكرهم بدعمهم للوحشية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وأهل غزة، إذ هذا بحد ذاته كفيل لكشف زيف ادعاءاتهم وأنهم أصحاب أيادٍ غارقة في الدم مثلما يثبت التاريخ، ومثلما هم يناصرون اليوم من يستبيح الدم العربي.
أخيراً، شكر مستحق لليابان، فمن عانى من المجازر الظالمة، بالتأكيد سيتعاطف مع من يعاني اليوم من مثلها، ومن تقارب أرقام ضحاياه أرقام ضحايا القنبلتين قبل 79 عاماً، وقد تزيد.