مهما تطرقنا إلى فصول العافية، فسوف تبقى هي الرزق اليومي في جميع أنفاس المرء في حياته، فهي من أجمل نعم الله عز وجل للإنسان، وهي باب الخير الموصل إلى نعم الدارين، فإنما العافية هي مفتاح النجاة وأسلوب التغيير والسير إلى الله تعالى، وأعلاها «عافية الدين» التي هي رسالة الوصول إلى فراديس الجنان. ورد أنه لما دعا الحجاج بن يوسف الثقفي الأعرابي يوماً إلى مائدته قال له مُرغباً: إنه طعام طيب. قال الأعرابي: والله ما طيبه خبازك ولا طباخك، ولكن طيّبته العافية. وقال رجل لصاحبه الحكيم وهو يتأمل في القصور: أين نحن حين قُسّمت هذه الأموال؟ فأخذه الحكيم إلى المستشفى وقال له: وأين نحن حين قُسّمت هذه الأمراض؟ وقال إبراهيم بن أدهم: إذا أردت أن تعرف الشيء بفضله فاقلبه بضده، فإذا أنت عرفت فضل ما أوتيت، فاقلب العافية بالبلاء تعرف فضل العافية.

كم هي جميلة الحياة عندما تُرزق بعافية تُطيب لك كل مساحات حياتك، تُرزق بعافية في بدنك وسمعك وبصرك وكلامك، وفي دينك ودنياك وآخرتك، وفي زوجك وذريتك وأهلك ومالك وطعامك، وفي عملك وأصحابك وحياتك كلها. جميلة هي أيامك عندما تتطيب «بالعافية»، فأنت تعيش في ظلالها وتتذوق حلاوتها عندما تعيش آمناً مطمئناً ساكناً في أوقاتك ومآلك، وعندما تجد حلاوة الأمان في قلبك، والتوفيق في سعيك. تجدها في التغيير الذي يحيط بأيامك كلما انتقلت إلى محطة ما، سواء على مستوى أسرتك أو عملك أو مجتمعك، وهو المثلث الأهم في حياتك، والذي من خلاله تعيش بمشاعرك وبأفراحك وأحزانك. معنى «عافية التغيير» عندما تنعم بأمن في نفسك، وراحة في قراراتك، وسعادة في أريحية تعاملك مع الحياة كلها، وسعادة في تغيير محطة العطاء التي اعتدت عليها وآن أوان الرحيل لعطاءات أخرى من أجل بهجة العافية.

تسعد النفس لتجد نفسها متألقة في كل مكان تحط فيها أقدامها لتتألق بالعطاء والعافية، فهو توفيق من الله تعالى أولاً وأخيراً، وهو رزق يسوقه المولى لك في محطات خير متتالية إن أحسنت العلاقة معه، وتجاوزت الآلام ومحن والماضي، وأصبحت قريباً من بابه تتجمّل حياتك بالطاعات والقُربات، لتجد نفسك في أيام جميلة «تُجمّلها العافية» وتجد يومك مُحاطاً بجمال «العافية» وبهجتها التي تجعلك مُتغيراً في كل شيء، ومُقبلاً ومُبادراً للخيرات.

لقد وصّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه العباس بوصية خالدة عندما سأله: يا رسول الله علمني شيئاً أسأله الله؟ ورددها أياماً. فرد عليه صلى الله عليه وسلم: «يا عباس، يا عم رسول الله، سل الله العافية في الدنيا والآخرة».

وقال عليه الصلاة والسلام: «سلوا الله العفو والعافية، فإن أحداً لم يُعطَ بعد اليقين خيراً من العافية». ولم يدع صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات حين يُمسي وحين يُصبح: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العافية في ديني ودُنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يديّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي». فإنما المقصد هنا العفو عن الذنوب، والعافية من الأسقام، والمعافاة بأن يعفو الرجل عن الناس، وأن يُعافيك الله من الناس ويُعافيهم منك، كما قال الزمخشري.

إن بهجة الحياة العامرة إنما تكون بالسلامة في الدين من الفتن والابتلاءات وبالثبات على كلمة التوحيد وعلى الإسلام والإيمان حتى نلقى الله تعالى، للنجاة من أهوال يوم القيامة، ثم بتطهيرك من الذنوب والآثام، ومن الأسقام والبلايا، وبصلاح نفسك وطهارة قلبك كالصفحة البيضاء فلا تحمل غلاً ولا حسداً ولا شحناء على أي أحد من الناس، ولا تمشي في الغيبة والنميمة، وأن تكون كالماء الزلال تسير بين الناس بابتسامتك وبأثرك الجميل الذي يمتد إلى أجيال مُتعاقبة، وإلى تلك الديار الجميلة التي نسأل الله تعالى أن نخلد فيها في الفردوس الأعلى. بهجة الحياة بعافية في الجسد تستطيع من خلالها أن تتألق من خلالها في خلافة الله تعالى على أرضه، وأن تنشر الخير، وتقدم الأثر الجميل مهما بلغت من العمر، فإنما بهجة الحياة بذلك الأثر الممتد الذي لا ينقطع مداده.

تأمل في نفسك وحياتك واشكر الله تعالى على نعمة العافية في كل شيء يمر عليك، فإن ابتليت في شيء فتذكر نعمة العافية في أشياء أخرى. ودائماً تأمل وخزة الألم البسيطة وذلك العارض الصحي الذي قد يعيقك أحياناً عن ممارسة أدوارك في الحياة، أو يعيقك من أن تقف قائماً مُصلياً لله تعالى، أو أن تكون غير قادر على ملامسة جبهتك للأرض أثناء السجود.. تأمل كل ذلك حتى تدرك أثر العافية في حياتك. فاللهم لك الحمد على «عافية» أسكبتها في أجسادنا، وأتمها علينا حتى أن نلقاك.

ومضة أمل
لكل من يحلم في الوصول، تذكّر فإنما الأرزاق والتوفيق بيد مالك الملوك تطيبها العافية.