في زمان انصرم، كان في كل حي مقهى، وهو عبارة عن قاعة كبيرة ذات واجهة مفتوحة ترص في زواياها وجوانبها وفي واجهتها مقاعد خشبية طولية يتسع كل مقعد لثلاثة أشخاص، وبها زاوية صغيرة معدة لتكون مطبخاً تعد فيه جميع أنواع المشروبات الساخنة كالقهوة العربية، والشاي بأنواعه، وبعض المأكولات الخفيفة «كالحمص المسلوق، والفول المسلوق، وأكواب الزبادي». ويجلس هناك في الزاوية على مكتب صغير مدير المقهى وهو غالباً ما يكون هو نفسه صاحب المقهى، ويتولى إعداد المشروبات الساخنة وتقديمها للزبائن عامل هو غالباً ما يكون من أبناء الحي.
وفي هذا المقهى يجتمع أهل الحي في أوقات فراغهم، ليتسامروا ويتجاذبوا أطراف الحديث، ويستمعوا إلى المذياع الذي يبث الأغاني العربية المحبوبة ويستمعوا لنشرات الأخبار، وأحياناً يتحلقون حول شاشة التلفاز بالمقهى ليتابعوا بعض مباريات كرة القدم أو بعض غيرها من البرامج التي يهتم بها جميع الحضور، وتجد على طاولات هذا المقهى بعض الألعاب الذهنية كلعبة «الشطرنج»، ولعبة «الدومنا»، و«الكيرم»، حيث يتجمع شباب ورجال الحي ليلعبوا تلك الألعاب الجماعية أو الثنائية أحياناً.
في هذا المقهى تقام كل هذه الأنشطة الجماعية التفاعلية، بين أبناء الحي فيتفاعلون معاً ويتواصلون لتتعزز بينهم علاقة الجيرة وعلاقة الأخوة، وعلى مقاعد هذا المقهى يتجاذب الجميع أطراف الحديث، فلا تجد كل فرد أو فردين منعزلين عن الآخرين كما هو الحال في مقاهي اليوم، فمقهى الحي أشبه بالنادي الذي يتواصل فيه الجميع.
وعلى مقاعد هذا المقهى تذوب الفروق والطبقات بين أبناء الحي فيجلس عليها الفقير والغني، المثقف، والأمي الشاب والهرم وحتى الطفل يشاركهم تلك المقاعد الخشبية. فلا حاجة لجهود لدمج المسنين في المجتمع، ولا حاجة لجهود لتعليم الصغار السنع والعادات الأصيلة فتلك المجالس هي مدارسهم التي يتعلمون فيها الآداب، وتتحول مقاعد المقهى إلى مقاعد دراسية للشباب حيث ينهلون من عصارة خبرات الكبار، ويسترشدون بتجاربهم.
ويستشيرونهم ليجتازوا بتلك المشورة مشاكلهم ويحطموا الصعوبات التي تقف في طريقهم، وعلى تلك المقاعد يغزل نسيج التواصل الاجتماعي بين أبناء الحي «الجيران» فيسأل كل منهم عن الآخر، ويتبادلون أخبار بعضهم البعض فهذا مريض، وذاك ذاهب للحج، وهذا قد زوج ابنته، وذاك قد توفي قريب له، فيتبادلون التهاني، والتعازي والمواساة.
ومساندة بعضهم بعضاً عند الحاجة، ليعزز هذا المقهى الترابط الاجتماعي بين أبناء الحي. وكم كان يستضاف في هذه المقاهي العازفون، والشعراء، والكتاب، والفنانون والمفكرون، وغيرهم لتتحول جلسات اللهو والمرح والتسلية في هذا المقهى إلى جلسات فكرية ثقافية تدور فيها أسخن الحوارات وأثراها.
أما دور مدير المقهى فهو دوره قيادي يلم الشمل فيسأل عن الغائب، ويحل الخلافات التي تقع بين مرتادي المقهى، ويحسم الأمور العالقة، ويحسن إلى المحتاج ببعض المشروبات أو المأكولات الخفيفة، ويخطط للزيارات الجماعية أحياناً كعيادة المريض منهم، والسؤال عن أحوال البعض.
إن نادي الحي، أقصد مقهى الحي يجمع بين العديد من المؤسسات الاجتماعية هو يجمع بين نادي المسنين، والمركز الاجتماعي، والمركز الشبابي، وأندية الأطفال والناشئة، والمقهى العادي ليكون بوتقة ينصهر فيه أبناء الحي الواحد فيعزز النسيج الاجتماعي بينهم. ترى هل هناك أمل لعودة مقهى الحي؟ ومن يعيده؟.. ودمتم سالمين.