بضعة أيّام قد مضت، على أيام معدودات من أفضل أيام السنة، أيام مباركة أقسم بها رب العزّة، هي الأيام العشر من ذي الحجة، التي فرض فيهن مناسك حج البيت «من استطاع إليه سبيلا»، فهي فريضة مَوقوتَة ومؤقتة من حيث الزّمن، ومن حيث التّكليف هي مخصّصة، أمّا من حيث مقاصدها فهي مُعَمَّمة.
لقد أوجب الله تعالى فريضة الحج على المقتدر مادياً والقادر صحياً، فلم يعمّم وجوبها على كل مسلم مثلما هو الشأن في فريضة الصلاة، كما أنه سبحانه أوتر في تكليفها لتكون مرة واحدة بالعمر، فأفردها بذلك عن باقي الطاعات رفعاً للمشقّة عن عباده. ولذات السبب ورحمة من لدنه، لم يعمّم سبحانه وجوبها إلاّ على المكلّفين الذين بمقدورهم كلفة شدِّ الرّحال لأدائها، وبإمكان قوّاهم تحمّل جهد القيام بها.
فإن كان واجب أداء شعائر الحج مرة واحدة، ويُعفَى منه الفئة المُعوزة وغير القادرة، كما أنه ينقضي بعد فترة مؤقتة، فإنّ مقاصد فريضة الحجّ غير مُؤقّتة، فهي لا تنقضي بانقضاء أيّام الحج وأداء مناسكه، بل هي إلزاميّة باستمرار على الحاج بعد إتمام مناسكه، الأمر الذي هو في حدّ ذاته يعدّ فرضاً، كما أنَّ مقاصد الحج معمّمة، العمل بها لا إعفاء فيه، تشمل من حجّ ومن لم يستطع للحج سبيلا، لذا يتعيَّن على كل من أدّى هذا الرّكن من دينه، وعلى حدّ السواء من لم يتمكّن من أدائه، أن يعِيَ ذلك ويتقيّد به.
ومن جملة هذه المقاصد، وعلى رأس قائمتها، تحقيق العبودية لله تعالى وذلك بالاستجابة لأوامره، وتحقيق إظهار هذه العبودية بتلبية وجوب فريضة الحج، كما جميع الفرائض، كما جاء في الآية الكريمة «سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير» فهذا المقصد يكتمل بأداء فريضة الحج ويستمر بتحقيق جوهره والحفاض على أداء بقية الفروض من صلاة وصيام وزكاة.
وتحقيق التّقوى هو مقصد ثاني من مقاصد الحج وفق قوله تعالى»الحجُّ أشهرٌ معلوماتٌ فمن فرض فيهنّ الحجَّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمُهُ الله وتزودوا فإنّ خير الزّاد التّقوى واتّقوني يا أولي الألباب»، غير أنّ أمر التّقوى لا يقتصر على أيام مناسك الحج وإن ورد في الآية الكريمة مقترناً بها، غير أنّه على نص في نفس الآية، على دوام الاستمرار على بلوغها، وذلك بالتّزود بها «وتزودوا فإنّ خير الزّاد التّقوى» بجميع ما ورد من تفصيل عن أوجه التقوى، إن كان الأوجه المنهي عنها، أو الأوجه التي أُمر بها أو دُعي إليه، ففعل الخير لا يتوقف عند موسم الحج، كما أن تجنب الجدال، والفسوق، مطلوب خلال أداء مناسك الحج، هو أيضاً مطلوب التقيّد به بعد انقضاء موسم الحج.
ومن مقاصد الحج ذكر الله كما جاء في قوله سبحانه «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ» وقوله تعالى «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍۢ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ ۖ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ»، وهذا المقصد هو وصل دائم بين العبد والخالق، فمن حقق هذا الوصل حقق القرب من الله وحضي بمحبّته.
وضمن هذا المقصد أشار تعالى بأمر واضح وصريح العبارة عن وجوب المداومة على ذكر الله مباشرة عند الفراغ من أداء شعائر الحج، كما في قوله سبحانه «فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ « وفق ما ينعكس ذلك جلياً، في الربط بين أمر الذِّكر وقضاء المناسك بحرف «الفاء» الذي يدلّ في هذا الموضع على الآنية والاستمرار، وانعكس أيضاً في الأمر بالإكثار من ذكر الله والمداومة عليه، من خلال ما وردت من تّشبيه بكثرة ذكر الآباء، وذلك باستخدام صيغة التّفضيل للدلالة على وجوب كثرة ذكر الله.
إنّ أداء مناسك الحج له منافع عظيمة، تعمل على تحقيق المقاصد التي أرادها الله من خلال فرض هذه الشعيرة «ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات»، كما تعمل على عدم انقطاع هذه المقاصد عند الفراغ من المناسك.
فإن كان أداء فريضة الحج واجب لمن استطاع إليه سبيلا، فالتّقيد بمقاصده واجب عليه وأيضاً على من لم يستطع إليه سبيلا، فالحج فريضة، شعائرها مؤقتة ولكن غير معمّمة، بَيد أنّ مقاصدها معمّمة ولكن غير مؤقّتة.