هناك في الأفق القريب تُحلق مشاعر حُبنا لتعانق سحائب الخير، محبة وليدة حياة مديدة في طاعة الله عز وجل، وتتلاقى الأجساد في محطات الحياة لتُعبر عن «الحُب» وتسكب ماء السعادة في النفوس المُتعطشة للعيش الرغيد، وتروي ظمأ «المُحبين» الذين أشغلتهم الحياة عن تلك المحطات المؤنسة التي تُصفي ما في نفوس من رواسب الحياة، وتكسر الحواجز، وتُعلم الخير، وتُذكر بالعطاء والوصال، وقبلات المحبة على جبين من أرهقتهم الحياة وعاشوا سنوات طويلة وهم يكابدون تعب الأيام، يُجهزون لهذا اليوم الذي يحلمون بجماله وباكتمال صورة «التربية الأسرية» التي جاهدوا ليكون فلذات الأكباد فيها عناصر محبة وخير وصلاح وهداية في المجتمع.

أستذكر تلك المعاني الجميلة التي لا يعرف أثرها إلا من عاش في ظلالها، كلما مرت في مُخيلتي ذكريات العائلة الجميلة وذكريات «البيت العود» في أي تجمع عائلي، وذكريات أهلي وعزوتي من إخواني وأخواتي الأعزاء حفظهم الله تعالى وألبسهم لباس الصحة والعافية وأطال عمرهم في طاعته. أستذكرها مع مرور السنوات واتساع مساحات العائلة، وهي مساحات حميمية جميلة يجب أن تكون ملفى كل من بحث عن «محاضن الحُب» ويرغب بأن يتذوق بصدق معاني الحياة. أما المحروم فهو من انقطعت به السبل وشغل نفسه بحواجز «الهجران والقطيعة»، وابتعد عن التواصل مع أهله وأحبابه، ولم يُبادر للم الشمل ولم مساحات «العائلة المهجورة» التي هُجرت بعد أن رحل من شيدا أركانها وتعبا في سنوات عمرهما من أجل أن يغرسا الحُب والوصال في نفوس كل فرد من أفراد «البيت العود» هكذا نسميه، وهكذا عشت طفولتي فيه، وأتذكر فيه ملامح كثيرة في العائلة الكبيرة في أيام الجد والجدة رحمهما الله، ثم في البيت العود الآخر أيام الوالدين رحمهما الله. هكذا تسير الحياة في محطات تلو الأخرى، تتأسس عائلات ثم تغادر الحياة، وتأتي الأجيال الأخرى لتواصل المسير إن أحسنت التعامل مع مقتضيات الحياة ومشاغلها التي لا تنتهي، وصنعت «بحُب» أركان عائلة ممتدة لا ينقطع تواصلها ومحبتها.

ليست العائلة مجرد لقاءات فارغة، أو واجب أسبوعي أو شهري تقوم به «الأسر الصغيرة»، بل هي محضن تربوي خصب تجتمع فيه جميع الأعمار، صغاراً وكباراً يتعلمون الخير والمحبة بصورة عملية. يتعلم الصغار جميع الآداب، ويتبادلون الحديث مع الكبار، ليكونوا لهم سنداً في تأسيس شخصياتهم، من أجل علاج «العزلة الاجتماعية» التي تفرضها بعض الأسر بحجج واهية، لتمضي بها السنوات وتتفاجأ فيما بعد بشخصيات منزوية عن الحياة، لا تأبه بأبسط أبجديات التعامل مع الآخرين، ولا تعرف معنى «للحُب». أتعرفون لماذا الحُب بالذات؟ لأنه أساس التغيير في شخصيات الأبناء، وأساس الأخذ والعطاء والتفاعل الاجتماعي الذي يغيب عن العديد من أبناء المستقبل الذين لم يتربوا في محاضن اللقاءات الدورية للعائلة الكبيرة. العائلة هي «ملفى الأياويد» التي تحافظ على رونق الماضي الجميل في تجمعات الآباء والأجداد، فكانوا يتغنون بمعاني السعادة، ويتبادلون الحُب وابتسامات الأثر الجميل التي ما زالت راسخة في أذهاننا.

لقاءات العائلة هي تلك التي تزيل رواسب الحياة المُرهقة، وتُسعد النفوس بمواقفها ولمساتها العاطفية لكل فرد منها. بالأهازيج والضحكات والفرفشات التي لها الطابع الخاص في نفوس كل فرد. هي تلك الواحة الغنّاء التي يستمتع فيها كل طفل وكل فتى وكل شاب وكل كبير، وبالأخص كبار العائلة السند والعزوة لكل فرد فيها. فهم البركة وهم لمسات المشاعر الدافئة. مشاعرهم لا تتكرر، فهم يتكلمون بلسان حال «الوالدين رحمهما الله» وأحسن إليهما بما قدما. مشاعرهم التي تؤلف القلوب وتحتضن الجميع. وما أجمل بساطة الكلمات عندما تخرج من القلب لتدخل إلى القلب وتحتضن معها كل «حُب».

تمضي الأيام سريعاً وتتعاقب الأجيال، ويبقى الخير في تلك النفوس المُتعلقة بحب بارئها، التي لا تترك شاردة ولا واردة ولا أي فرصة «عائلية» إلا وتراها في مقدمة مساحات أثرها، من أجل أن تجدد نفسها أولاً، ثم تربي أفراد أسرتها على مهارات الحياة، فأجمل مدرسة للتعليم هي «العائلة الممتدة» التي مهما قال البعض أنها انتهت من عوالمنا، إلا أنها باقية في مساحات كثيرة من الحياة، وما زال البعض يستمتع بعبقها، مستذكرين أجور الآخرة الباقية: «من أراد أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه».

ومضة أمل

لا ينفع الندم في أي لحظة من اللحظات عندما تفتح عينيك إلا وقد اختفت صورة «أحدهم» من ضمن الصورة الجماعية للعائلة. فتتحسر على شهور بل وسنوات لم تقبل فيها جبينه وتحتضن محبته التي أحبك فيها من قلبه. ظروف الحياة لا تنتهي.. فلا تُلقي باللائمة عليها، فإنك حينها خاسر بلا محالة.