الملا خضر الموصلي كان من أشهر القصاصين في بغداد، «توفى سنة 1912» وفي تلك الأيام وما سبقها لمئات السنين، كانت وسائل اللهو والترفيه وتحصيل المعرفة لبسطاء الناس محدودة جداً، ولعل أكثرها انتشاراً هي المقاهي، التي تحرص على وجود القصاص فيها أو كما يسمه البغداديون في حينها «القصه خون» ومن طرائف القصص ما جرى مع الملا خضر في إحدى مجالسه في المقهى، وهي عندما كان يروي لهم قصة عنترة، قرر أن يتوقف ليكمل لهم القصة في اليوم التالي، واختار التوقف في لحظة وقوع عنترة أسيراً بيد أعدائه، وذهب إلى بيته، لكنه تفاجأ في الليل بقرع بابه فخرج ليجد أحد رواد المقهى، حزيناً متأثراً بما حل بعنترة، وقال للملا خضر: «الله يخليك ملا فك عنترة من الأسر، وإلا مستحيل أنام» فأخرج له عنترة من الأسر، وفي المقابل شكره الرجل وذهب مرتاح البال إلى بيته.

قد تظهر هذه القصة في الوهلة الأولى سذاجة الشخص المتأثر بالقصاص، لكنها في الوقت نفسه تبين واقعاً متجدداً حتى يومنا هذا، فالقصاص على بساطته وروايته للتراث الشعبي والأساطير إلا أنه كان يشكل جسراً بين الأجيال، ومع كل الحشو والمبالغات وكثير من الزيف الذي يقدمه إلا أن القصاصين كانوا يرسخون الهوية الثقافية للمجتمع وينشرون القيم الفضيلة، وكانت لهم مكانة مرموقة بين الناس البسطاء، وكانوا مؤثرين في المجتمع على بساطتهم، وكانوا يعرفون بالفطرة أدوات التأثير، ففي القصة سالفة الذكر، لم يتوقف القصاص اعتباطاً عند هذه النقطة لانقضاء الوقت أو لأنه تعب، لكنه عرف أنه وصل إلى أعلى مراحل التشويق فتوقف، ليجعل المستمعين يتحرقون شوقاً لتكملة القصة في اليوم التالي وسيأتون إلى المقهى لاستكمالها وهو المطلوب.

الواقع المتجدد، قد يكون أسوأ من هذه القصة، مع أنه مرتبط بالتكنولوجيا، فالمؤثرون الجدد في الغالب، يقدمون محتوى فارغاً بواسطة وسائط التواصل الاجتماعي، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، لأنه في الواقع لا يقدم أي معرفة ومع ذلك ينشر ثقافة الاستهلاك، استهلاك أي شيء، ويخلو من قيم الفضيلة، بل ينشر ما يضدها، وأيضاً كما القصاصين يتمتع هؤلاء المؤثرون بمكانة مرموقة بين عدد كبير من الناس، أكثرهم من المتعلمين ولكنهم في الواقع هم بمستوى البسطاء قبل مائة سنة وأقل، وأيضاً يعرف المؤثرون الجدد أدوات التأثير بالفطرة كالقصاصين وزادوا عليهم، فهم لا يعتمدون على عنصر التشويق وحده، لأنهم أضافوا عرض تفاصيل حياتهم اليومية وخصوصياتهم على الآخرين، وهو ما يستهوي الكثير.

أياً كان الحال، سلطة المؤثرين ظاهرة ثقافية اجتماعية ليست بالجديدة، ولكنها ازدادت في عصر التكنولوجيا، وأصبح لهؤلاء قدرة على توجيه الرأي العام، وسلوكيات المجتمع، وهم أشبه بموجة ضخمة عالية الارتفاع، قوية لا يمكن كسرها، ولكن يمكن الانتفاع بقوتها، إذا ما وجهها أصحابها الوجهة الصحيحة، في اعتقادي كل ما يحتاج إليه المؤثرون الجدد، نوع من التعليم، يجمع بين تقنيات الإعلام والثقافة والقيم، ليكون تأثيرهم قوة دافعة لنمو المجتمعات وصلاحها.

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية