عند نهاية القرن السادس قبل الميلاد، كانت الأوضاع في أثينا قد وصلت إلى حد لا يُطاق من الفساد والطغيان، فانتهى الأمر بثورة شعبية ناجحة انتهت بنظام مستقر افتخر به الأثينيون لقرن كامل، أما ما كان يميّز سكان أثينا عن غيرهم، أنهم كانوا يستشعرون بالفطرة السلوكيات المعادية التي دائماً ما تأتي بصورة مغلفة وغير مباشرة، وكانوا يعلمون تماماً أن الاستقرار الذي حصلوا عليه لا يمكن أن يستمر مع وجود الفاسدين والطغاة، صحيح أنهم تخلّصوا منهم بثورة، ولكن الانتهازيين لا يغيبون عن أي مجتمع وهؤلاء يتحولون إلى فاسدين وطغاة إذا ما وصلوا إلى موقع المسؤولية، واقتلاعهم بثورة في كل مرة أمر غير ممكن فهو يزرع الفرقة والتحزب بين الناس ويهدد تماسك المدينة ويفسد ثقة الناس بأنفسهم ويثير الأحقاد بينهم، وينتهي بخراب المدينة ودمارها.

لذلك اخترعوا طريقة للتخلص من الانتهازيين والفاسدين بهدوء، حتى لا تتكرر سيطرة الطغاة والفاسدين مرة أخرى، ببساطة كانت الطريقة تتمثل باجتماع سكان أثينا كلهم مرة في كل سنة في سوق المدينة ويأتي كل واحد منهم برقاقة طين خفيفة يكتب عليها اسم أسوأ مسؤول، وكل مسؤول يتكرر اسمه 6000 مرة يطرد من منصبه ومن المدينة، ولا يسمح له بدخولها مدة عشر سنوات، وإذا ما حصل ولم يبلغ أحد نصاب الستة آلاف صوت فإنهم ينظرون إلى صاحب أعلى الأصوات ويُطرد، أي أن الأمر حتميّ في كل سنة يغادر واحد أو أكثر منصبه ليكون عِبرة لغيره، ولتجري عملية «تنظيف» لمواقع المسؤولية، هذه العملية أطلقوا عليها اسم «أوستراسيسم» يعني النفي بدون محاكمة وهي مأخوذة من الكلمة أوستراكا التي تعني رقاقة الطين أو اللوح الطيني، ما يميز هذه العملية أنها كانت صارمة وبدون استثناءات ففي سنة 482 قبل الميلاد تحقق نصاب الطرد، لأرستيدس، أعظم القادة في تاريخ أثينا والذي كان قبلها بسنتين قد حقق لأثينا نصراً مؤزراً وهزم الفرس في معركة ماراثون، وخارج إطار المعارك والقتال كان قاضياً لامعاً بسبب صدقه وإنصافه، لكنه مع مرور الوقت بدأ بالتكبّر والتعالي على الناس واحتقارهم وأصبح متغطرساً، حتى وجد اسمه على أكثر من 6000 رقاقة طينية، فطرد في وقت كان المجتمع بأمسّ حاجة إلى خبراته في الحرب الدائرة مع الفرس، لكن هذا لم يمنعهم من طرده، وهكذا استمر الحال في أثينا.

وفي واقع الحال وبعيداً عن التاريخ، فإنه من الطبيعي لأي نظام، أو كيان، أو شركة أو أي تكتل بشري منظم بإدارة، أن يصل إلى موقع المسؤولية فيه من يطغى، لتبرز بعدها الحاجة الملحة إلى آليات فاعلة للتخلص من تأثير هذا النموذج من البشر، ومع أن عملية «أوستراسيسم» مر عليها 2500 سنة تقريباً، إلا أنها تحمل رؤية معاصرة لإدارة الأزمات ومعالجة الخلل على مستوى الإدارة، فهي أداة ناعمة للإصلاح تعيد التوازن وتبعد عن المشهد من يهددون النظام، وتحافظ على النزاهة في المؤسسات، وتفعل المراقبة الداخلية وتقييم الأداء بشفافية، وتتخذ القرارات بصرامة.

ليس المقصود استخدام هذه الآلية بعينها لإجراء الإصلاح، لكن المقصود في الواقع أي آلية أو طريقة ناعمة تدار بحكمة وعدالة وتؤدي إلى التصحيح وتتجنب استخدم القوة المفرطة، التي قد تؤدي بشكل أو بآخر إلى زرع الفرقة والتحزب بين الناس، ففي الواقع الاستراتيجيات الناعمة تحافظ على إلزام وتعزز مبدأ العدالة.

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية