عندما تمر عليك سنوات من الخبرة الميدانية العملية، وتمر من خلالها على عدة محطات إدارية تبوأت من خلالها عدة مناصب وتنوعت من خلالها خبراتك، فإنك حينها تملك ذخيرة إدارية وقيادية كبيرة تستطيع من خلالها أن تكتب فصولاً من الخبرة التي يجب أن يتعلمها أبناء الأجيال ويتعرفوا كيف يديرون حياتهم أولاً ثم ميادين أعمالهم.

وعندما فكرت في كتابة «اليوميات الإدارية» فإنها كانت من وحي الحياة برمتها، فالحاجة ماسة لتوثيقها لتكون مرجعاً للأيام.

منذ أيام كانت لي معاملة في إحدى المؤسسات لإنهاء إجراءات تأمين السيارة مع أحد الوسطاء، الجميل في الموضوع أن الموظفة المعنية تواصلت معي لإنهاء الإجراءات حتى الساعة الرابعة عصراً وهو موعد انتهاء عملها، فلم تترك المعاملة لليوم التالي، بل حرصت على متابعتي لإنهاء الإجراءات حتى ما بعد الرابعة.

كلمة شكر قليلة في حقها أرسلتها أثني على هذا التصرف الراقي الذي ينم على إخلاص وحرص شديد على إنجاز العمل وترك أجمل الأثر في نفوس المراجعين، ثم المحافظة على سمعة مؤسستها ليكون هذا المراجع سفير خير في الحديث عن رقي مؤسستها.

مثل هذه المواقف تتكرر في الكثير من المؤسسات ولدينا من النماذج الوطنية الراقية التي نفخر بها في عملها وإتقانها وحرصها على الإنجاز وترك أجمل الأثر في نفوس المسؤولين والمراجعين.

وقفتنا هنا مع أولئك الذين تساهلوا في أعمالهم وجعلوا من الدقائق الأخيرة أو بالأحرى الساعة الأخيرة من العمل محطة استراحة بحجة «لم يبق شيء من نهاية الدوام فنؤخر المعاملة أو التكليف إلى اليوم التالي». هي المراقبة الذاتية ومراقبة الله عزوجل قبل المسؤولين فمثل هذه الدقائق يتقاضى عليها الموظف «الأجر» وحري به أن ينهي عمله، والأجمل أن يجلس دقائق أخرى بعد وقته لإنجاز «معاملة ضرورية» أو تكليف ضروري من المسؤول.

يوميات بعض الموظفين مبنية على تضييع أوقات العمل في جلسات الزيارات وتبادل السلام والحديث عن شؤون الحياة، وهي جلسات سارقة لأوقات العمل، وتعطي انطباعاً حياً بوجود خلل واضح في توجيهات البعض الذي يجعل من العمل محطة لإنجاز أعماله الشخصية والحديث الفارغ مع الآخرين الذين قلت مهام عملهم المعتادة.

هنا يأتي النضج النفسي والصدق مع الله عز وجل، وقيمة أن تكون أوقات العمل مساحة مُقدسة للإنجاز وتبادل والأفكار والتغيير والاستفادة من خبرات الآخرين، أو على أقل تقدير مراجعة مهام العمل وأسلوبه والتفكير في بدائل إبداعية تجدد العطاء. تبرز هنا قصة سيدنا عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه والتي يجب أن تكون رسالة لكل موظف حريص على أن يكون قدوة في مجال عمله.

فبعد أن وفد على عمر بن عبدالعزيز رسولاً من أحد الوفود، فدخل عليه وأجلسه عمر في في منزله ودعا بشمعة غليظة أججت نارًا للإضاءة. فدار الحديث عن المسلمين وعن أحوالهم في تلك الديار. حتى إذا فرغ عمر من مسألته قال له: كيف حالك في نفسك وبدنك وكيف عيالك؟ ـ سأله عن أحواله الشخصية ـ فنفخ حينها عمر الشمعة فأطفأها بنفخته، وقال: يا غلام، عليّ بالسراج، فأتي بفتيلة لا تكاد تضيء، فقال لضيفه: سل عما أحببت.

فاستغرب عن هذا الأمر وسأله عن السبب. فأجاب رضي الله عنه: «يا عبدالله، إن الشمعة التي رأيتني أطفأتها من مال الله ومال المسلمين، وكنت أسألك عن حوائجهم وأمرهم، فكانت تلك الشمعة توقد بين يديّ فيما يصلحهم وهي لهم، فلما صرت لشأني وأمر عيالي ونفسي أطفأت نار المسلمين».

حس الموظف المرهف وصدقه مع ربه وإخلاصه وإتقانه وتفانيه في عمله يعطيه دافعًا ليكون معطاءً وصاحب أثر جميل في الحياة، وموفقاً في كافة أموره الحياتية، فلا يقبل أبداً أن تضيع أوقاته ولو للحظة واحدة بلا إنجاز ولا قضاء لحاجة الآخرين، فهناك من ينتظر تفريج همه، بل هناك من يبحث عن عمل يكتسب منه الرزق الحلال.

نحتاج لمواقف إدارية رزينة نحافظ فيها على قيمنا وثوابتها من أجل أن نعيش بسعادة الدارين، وشعارها «رضا الله تعالى أولاً».

ومضة أمل

عندما سترحل يوماً ما عن عملك، ستكون إنجازاتك وأثرك وسيرتك الطيبة هي الباقية في عمل من سيكون بعدك، وسيُدعى لك بالخير.