إن الحروب المستعرة عبر العالم، لا يكاد يستفيد منها سوى المجمع الصناعي - العسكري، الذي يزداد ثراءً، كلما استمرت هذه الحروب وازدادت عنفًا وامتداداً، ليحقق المزيد من النفوذ والنقود، حتى وإن أدى إلى إبادة الملايين من البشر.

من هنا جاءت نظرية «الحرب الدائمة»، التي تتبعها عدد من الدول الرأسمالية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي يكاد يكون تاريخها هو تاريخ الحروب الدائمة، استجابة لضغط المصالح التي يمثلها «المجمع العسكري الصناعي» الذي يتعامل مع الحروب باعتبارها استثماراً مربحاً، حتى أصبح القطاع العسكري ليس المُولدَ الرئيسيَّ للثروة فحسب، بل والمولد الرئيسي للتقدم العلمي والتكنولوجي وأحد أهم مستهلكي ثماره.

إن نظرية الحرب الدائمة تقوم على فبركة وافتعال المخاطر والتهديدات الأزمات الدولية، لتبرير التَّدخل في شؤون الدُّول الأخرى، لتبرير التمويل العسكري والاستثمار فيه، ليكون في ظاهره دفاعاً عن الأمن القومي، وفي حقيقته تكريساً لمنطق الرّبح في صناعة السلاح والاتجار فيه. وهذا ما نراه اليوم في تضخم الترسانات العسكرية والعسكرة المفرطة في العالم، حتى أصبح اقتصاد الحرب أحد أهم الطرق لتكريس هيمنة المجمع الصناعي العسكري. ومن هنا يمكننا فهم ما يجري من حروب، عاينت البشرية نتائجها الكارثية على العالم، خلال ما لا يقل عن قرن من الزمن.. ولعل ما يجري حالياً على السّاحة الأوكرانية بين روسيا ودول الغرب، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ليس سوى حلقة جديدة من حلقات عمل هذه الماكنة التي لا تهدأ ضمن دورات الحروب الدائمة، لبروز قوى جديدة ترفض الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم وتعمل على انتزاع مكان لها تحت الشمس. إن التاريخ لم ينتهِ كما يزعم السيد فوكوهاما. إنه -بالعكس من ذلك- يتحرك في أماكن أخرى، في روسيا والهند والصين،... ولا تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، إلا الاعتراض بالقوة والتهديد لمنع الخارجين من حظيرة السيطرة والتبعية، ولكن بلغة بائسة ويائسة، مثل الحصار والعقوبات، والتجويع، والابتزاز والاحتواء. أليس تخصيص حوالي 50 مليار دولار لتغذية هذه الحرب في أوكرانيا -بدلاً من العمل على إيقافها بالوسائل السلمية- دليلاً على الإفلاس السياسي وتكريساً لنظرية الحرب الدائمة التي أشرنا إليها؟

بعض الأعضاء البارزين في الكونغرس الأمريكي من الديمقراطيين والجمهوريين من العقلانيين، يتهمون صراحةً، الإدارة الأمريكية الحالية بالعجز التام عن قيادة العالم، لأن القيادة الحقيقية لا تفرضها المواجهات العسكرية وثقافة الحرب الدائمة. كما أن محاولة فرض العملقة بالقوة وجرّ العالم إلى منازعات ساخنة لإخفاء المشكلات الحقيقية التي خلقها نظام الجشع الرأسمالي، لن تضمن استمرار العملقة المنفردة في المستقبل المنظور. لأن قسماً كبيراً وهاماً من هذا العالم الجديد، بات يرفض القبول بذلك. بل إن العديد من النخب الأمريكية باتوا يعون هذه الحقيقة، ويتحدثون عنها صراحةً.