الرأي

ما هو النظام العالمي الجديد؟

الحديث الأكثر تداولاً في هذه المرحلة يدور حول تشكل نظام عالمي جديد. أحياناً يبحث المحللون عن مؤشرات متسقة تفسر هذا العالم. وأحياناً تأتي التعليقات العامة متناقضة مع بعضها. وفي المجمل لا أحد يستطيع أن يجزم بطبيعة النظام العالمي الجديد أو تمثلاته العامة التي ستحل محل النظام العالمي الحالي.

واستناداً إلى معالم النظام العالمي الحالي الذي ترسخت أركانه في تسعينيات القرن الماضي بعد السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي فإن عالمنا هو عالم القطب الغربي الرأسمالي بقيادة أمريكا. ومنظومة القيم التي تحكمه هي التمركز حول العقل والعلوم، وجعلها مفسراً وموجهاً لحركة البشر. بالإضافة إلى الفردانية والحرية الذاتية والتوجه نحو العولمة والكونية. بالتالي، فإن من يتحدثون عن نظام عالمي جديد، فإنهم غالباً ما ينطلقون من هذين المحورين: الأقطاب والقيم.

لا شك في أنه مع دخولنا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين قد استقوت دول جديدة لم تكن في الحسبان. الصين حققت ذروة معجزتها الاقتصادية والبشرية في ثلاثين عاماً فقط. روسيا بدأت تستعيد عافيتها وموقعها الإمبراطوري في أوروبا. الهند تتقدم وتتغير شيئاً فشيئاً وتكون لها حالة خاصة غير واضحة المعالم. كوريا الشمالية المجهولة عنا لديها أسلحة نووية تهدد بها جميع خصومها. كيانات صغيرة هنا وهناك ليست بقوة الآخرين لكنها مزعجة ولديها أوراق ضغط مؤثرة مثل إيران وتركيا وفنزويلا والبرازيل. هذه الدول بدأت تنافس أوروبا في معدلات التنمية وفي تفوق الإنتاج الصناعي والتكنولوجي، وفي الإنفاق على الجامعات البحوث العلمية، بل وحتى في الصناعات العسكرية. والعديد منها يتفوق على الغرب في القوة البشرية وموقعه الإستراتيجي وامتلاكه الثروات الطبيعية وخصوصا موارد الطاقة. وصارت تلك الدول تعقد تحالفاتها واتفاقاتها الخاصة. ولدى الكثير منها أنظمة وبرامج اقتصادية خاصة مشتركة فيما بينها. مما يقلل احتياجها للغرب. ويفك من ارتباطها الحتمي به. بالتالي تراجع نفوذ الغرب وسيطرته عليها.

أما محور القيم فهو الأصعب في الرصد والتتبع. فإذا كانت قيم الغرب تقوم على العلم والتحرر، فإن قيم دول المحاور الأخرى لم تتضح بعد سوى أنها تحاول الانعتاق من فرض القيم الغربية التي ترى أنها لا تناسبها، وأنها ليست أكثر من شعارات تمهد لتحركات الغرب الاستعمارية. غير أن قيماً جديدة بدأت تظهر، ولكن من المحور الغربي. إنها امتداد وانفلات لقيم الفردانية والحرية الذاتية. التي بدأت تتجاوز مسألة الحرية والشخصية وقبول الآخر والاعتراف به. إلى التبشير بتلك القيم المنفلتة وأحياناً فرضها. مثل الإلحاد وحرية اختيار الجندر وتمكين المثليين والسود والمهاجرين، والتقييد على حرية التعبير المخالفة لهذه القيم الجديدة. وزُج بهذه القضايا في المناهج التعليمية وفي المدارس، مما خلق حالة فزع بين أولياء الأمور الذين يريدون أن ينشأ أبناؤهم في بيئة معتدلة كالتي نشؤوا هم عليها. وفي هذا السياق فإن الساحات الأهم لصراع القيم الجديدة هي أمريكا وكندا وأستراليا، واتضحت بشكل كبير في أسلوب التعامل مع قيود وباء «كورونا» ومع فرض حقوق المثليين في الدستور في الكنيسة.

وربما تكون أول رصاصة في صراع العالمين القديم والجديد أطلقت في أوكرانيا. حيث يتجلى صراع المحور الروسي والغربي، واهتزت قيم الغرب في الحرية وقبول الآخر. وتبدو نتائج حرب المحاور متوقعة. فإما يستمر الغرب في قيادة العالم والهيمنة عليه. أو تتمكن القوى الجديدة من حجز مقاعدها وتقاسم ميراث القوى المولية. ويبقى سؤال القيم قائماً. ما هي القيم الجديدة التي سيحكم بها المحورُ الغالبُ العالمَ؟. لا أحد يتكلم عن إيقاف الحروب واستنزاف ثروات الفقراء. لا أحد يتطرق إلى حقوق الشعوب المغلوبة على أمرها. موقع الدين والثقافة المحلية وقيم الأسرة والضوابط الاجتماعية ليست في الحسبان. وهذا الذي قد يجعلنا ضحية كل محور يحتل مواقع المحور السابق.