الرأي

التعذيب الخفي

لم ننتهِ بعد من تفنيد مضامين فيلم «Anon»، الذي وقفنا عليه لأسبوع مضى بالتحليل الدقيق، وقراءة المستقبل من خلال ما يقدمه من خيال علمي غرائبي نوعاً ما، ولعلنا بحاجة لإقامة كثير من الروابط المتكررة بين رموزه لتفكيك الرموز ومعالجة كل واحد منها على حدة.

بالأمس أشرنا إلى مخاوفنا المتعلقة باختراقات عين العقل والإدراك البشري، ما يعني إمكانية السيطرة على العقول فعلاً لا مجازاً. وتناولنا في متن المقال كيف يتم التلاعب بذاكرة أحدهم، وكنا قد وقفنا أيضاً في أوقات سابقة كثيرة إلى تزوير الذكريات عبر تصوير أحداث ومواقف مزورة للعقل، وإيجاد «أفراد وأشياء في أمكنة لم يكن لهم وجود فيها في حقيقة الأمر». ومن خلال تلك التقنية وتقنية محو الذكريات تظهر فرصة التلاعب بالعقول وتعذيب أصحابها بذكرياتهم أو بعين العقل.

إن مسألة التعذيب بعين العقل قد تبدو غريبة نسبياً، ولكنها تمثلت في الفيلم بإضافة عناصر إضافية على مشهد حقيقي يراه الشخص المخترق دماغياً في اللحظة الآنية، حيث يكون أحدهم في غرفته مثلاً، وفجأة يرى غرفته ملأى بكلاب يهمون بمهاجمته والنباح عليه، أو تصوير فراشه وقد امتلأ بالديدان، أو تغيير شكل المكان من حوله ليشعر أنه في قبر مثلاً، وذلك من خلال التحكم بدماغه عبر ألعاب بصرية تغشي على عينه، وتعزله عنه صورة الواقع المحيط به.

كذلك يمكن خلق ذكريات جديدة في مخيلته، كأن يرى الشخص المخترق أحد أبنائه يقتل أمامه، أو يرى حبيبته تنتحر بطريقة بشعة، أو أن حادث سيارة يكاد يودي بحياته فيما هو في الحقيقة في مكان آمن، وليس أي من ذلك حقيقياً!!! بهكذا طرق يمكن ببساطة تعذيب البشر من خلال الإيحاء دون إيقاع ضرر جسدي فعلي عليهم أو حتى إخبارهم لفظياً بحدوث ضرر ما لأحد المقربين منهم.

من جهة أخرى، وكما يمكن التعذيب بصناعة الذكريات الوهمية، يمكن أيضاً التعذيب بمحو الذكريات الحقيقية، فلك أن تتخيل أنك تدري أن لك ولداً اسمه فلان، ولكن ذاكرتك لا تحفظ شكله، تحاول استعادة ملامحه في مخيلتك فلا تجد لها أثراً، تسعى جاهداً لأن تستعيد ذكرى ما تحبها، كيوم زفافك أو لحظة إنجاب طفلك الأول، فضلاً عن التفاصيل الصغيرة التي تجمعك بمن حولك وتبقي في نفسك بوارق الأمل بأن مازال في الحياة ما يستحق العناء، وأن ثمة جميلاً ننتظره ويستحق أن نعيش من أجله رغم كل الصعاب.

* اختلاج النبض:

بين صناعة الذكريات الوهمية ومحو الذكريات الحقيقية، تكمن الحروب النفسية، بالتهديد والتخويف حيناً، وبإعدام الأمل على مشانق النسيان غير المبرر. قد يكون سؤالاً لئيماً، ولكن.. هل خطر على ذهنك شخص ما وددت تعذيبه بتقنية التلاعب بالذكريات حيث «لا من شاف.. ولا من دري»؟!!