الرأي

ما علمتني كيف أرثيك يا أبا وائل!

«ها.. سبع وﻻ ضبع؟!».. بهذا السؤال كان يستقبلني في كل مرة بعد رجوعي من تغطية أو مقابلة صحفية ما فأرد عليه بابتسامة، ليعقب: أصلاً ﻻ أشك قيد أنملة! فأنت تلميذتي النجيبة التي أرى فيها نفسي عندما كنت صحفياً شاباً يملؤني الحماس.. فأرد عليه أصلاً أنت ﻻتزال في ريعان شبابك..

يا الله.. هل رحل الأستاذ الصحفي الكبير لطفي نصر حقاً؟!

كنت لا أزال طالبة في منتصف سنتي الجامعية الثانية عندما قابلته للمرة الأولى لإجراء تحقيق صحفي ضمن متطلب جامعي، في المقابلة نفسها طلب مني العمل في «أخبار الخليج»، ترددت فألح.. سألته لماذا؟ فرد: أنا لدي نظرة لا تخيب في الإنسان الذي أقابله، وأتنبأ لك بمستقبل صحفي زاهر..

وكانت هذه بداية مشوار عمره أحد عشر عاماً قضيتها في مدرستي الأثيرة «أخبار الخليج»، كنت خلالها تلميذته النجيبة التي يرقب أداءها عن كثب.. كان يعاملني بحنو الأب وصبر المعلم وشغف القائد..

كلما أوجعتني الصحافة بهمومها ومتاعبها وجدته يقوي عزمي ويشد من أزري ويجبر بخاطري بقوله لي وللمحيطين بنا: أنت عمود من أعمدة هذه الجريدة.. وفي نظري هو من كان أحد الأعمدة والأساس المتين الذي تنهض عليه أخبار الخليج..

كان يطيب له أن يذكر في كل محفل أو مناسبة أنه هو من طلب مني العمل في أخبار الخليج وأن نظرته بي لم تخب، وعندما كان أحد الزملاء يشاكسني بالقول إنني وريثة عائلة غنية لعدم اهتمامي بالمكافآت المادية أو العلاوات كان يدافع بالقول: «مريم ليست مادية بطبيعتها، منذ عرفتها لم تتكلم قط في أمور مادية، هي تعشق مهنتها وتحترم قلمها فحسب»..

يا رباه كم كان يعرفني جيداً.. وكم كنت ولا أزال فخورة بهذه المعرفة..

عرفته عاشقاً للصحافة حتى النخاع وكان يقول لي دائماً لن تستطيعي ترك الصحافة حتى وإن أردت أو نويت ذلك فهي تسري في دمك..

الآن وبعد كل ما عانيت منها ولا أزال أدرك جيداً بُعد نظره وصدق كلامه..!

شهادتي فيك مجروحة يا أبا وائل، وأنت الرجل العظيم الذي ما عرفك أحد سواء كان وزيراً أو غفيراً.. رجل مجتمع أو رجل شارع.. إلا وأحبك وقدرك واحترمك لأنك كنت تفرض على الجميع ذلك بخلقك النبيل ومبادئك الرفيعة التي ما تزعزعت قط ولا تغيرت أو تبدلت.

كان عاشقاً للبحرين ومدافعاً شرساً عنها وعن مختلف مكوناتها الاجتماعية مسخراً نفسه وقلمه وكلمته وصوته لها ولكل ما يتعلق بها، وأبى إلا أن يترجل منها وهو في الطريق لأداء واجبه المهني.. لقد بقي في الميدان حتى لحظات عمره الأخيرة.. فما أعظمك يا أبا وائل!

كان مؤمنا أن العمل الصحفي ﻻ يمكن أن يكون عملاً مكتبياً وإنما ميدانياً بحيث يتواجد الصحفي في الشارع ومع الناس وفي قلب الحدث.. ما كان يكل وﻻ يمل، حتى على الرغم من مشاغله الإدارية في الجريدة لم يترك الميدان، وظل مواظباً على التغطيات الميدانية رغم ما يكتنفها من تعب ومشقة..

الأستاذ الكبير والمعلم الجهبذ يترجل عن فرسه في أعظم الشهور شهر رمضان وفي العشر الأواخر المباركات منه وفي أفضل الليالي ليلة الجمعة وهو في الطريق لأداء واجبه المهني، لذلك فإننا نحتسبه شهيداً بإذن الله..

بعد أقل من 24 ساعة من نشر مقالك «أوجاع الصحافة» ترجلت عنها وأنت في طريقك إليها.. يا للمفارقة العجيبة! ومن يعرفك جيداً سيعرف أنه ليس غريباً عليك أن تموت في حياضها رغم الوجع والتعب الكبير الذي تسببه لك..

أبا وائل: ما تخيلت يوماً أن أرثيك بقلم مكسور وبقلب أفجعه الفقد مرة بفقد الأم الحنون ومرة أخرى بفقد الوالد والأستاذ والمعلم في غضون عام واحد..!

نم قرير العين أيها الوالد والأستاذ النبيل، سنظل نتذكرك حتى نلقاك في دار ليس بها فناء ولا وجع أو عناء.. وسيظل محلك القلب وسنبقى حافظين لك جميل ما صنعت وعلمت ووجهت وأرشدت ونصحت..

* سانحة:

خالص العزاء والمواساة في فقيد الصحافة الكبير نقدمها لأسرته الكريمة فرداً فرداً وللأسرة الصحفية ورفقاء دربه وكافة الزملاء ومن تتلمذوا على يديه..

اللهم إنه وديعك وهذا حكمك وقدرك، ذهب منا إليك وأنت به رحيم واسع المغفرة، لقد سبقنا إليك فاغفر له واجعله في فردوسك الأعلى.