الرأي

«ضياع».. «اختفاء».. «غياب»!

اتجــاهـــات


لعبة المصطلحات في الكتابة الخبرية، هي فن يصل لمستواه الاحترافي الصحافيون والكتاب ذوو الخبرة، فأحياناً «كلمة» واحدة في عنوان يمكن أن تخلق أزمة، والعكس، يمكن أن تصنع لك حشوداً تمضي معك بقوة في أي اتجاه.
سواء أكانت تستخدم للإثارة، أو لتهويل الأمور، أو لتوصيف دقيق، أو لبيان وضع مؤلم موجع، أو واقع مهول مخيف، إلا أن «مبعث» إطلاق المصطلحات، أعني «أصل الحكاية» هي مربط الفرس.
انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي يوم أمس قصاصات صحف لأخبار لها علاقة بالوضع الاقتصادي والمالي للبحرين، وتأتي في إطار ما يمكن توصيفه تحت خانة «الهدر المالي»، وهو المصطلح الذي تكرر كثيراً كثيراً كثيراً في تقارير الرقابة المالية طوال الثلاثة عشر عاماً الماضية، وهي عمر التقرير.
الناس تناقلت خبراً معنياً بـ»ضياع» ملايين، ولمن لا يقرأ السطور ويكتفي بالعناوين سيظن أنها أموال موجودة وضاعت أو نهبت، في حين أنها معنية بفرص استثمارية لم تستغل بطرق صحيحة، وبأوضاع سبقت قوانين منظمة، وهي بالفعل تسببت في ضياع فرصة لزيادة الدخل القومي ورفد الميزانية العامة، وتجنيب الدولة اتخاذ تدابير تقشفية وفي إطار تقنين المصروفات.
عموماً، هي في النهاية عملية تدخل ضمن «عدم نجاعة» الإدارة المالية، وجاء المصطلح المستخدم ليوقعنا في «لبس» الظن بأن هناك حالات خاطئة لم يتم التعامل معها بموجب القانون.
لكن في مثال آخر، هناك حالات شرحت بـ»مصطلحات» غير مقبول استخدامها، لأنها حولت المسألة برمتها لموضوع «مبهم»، والأخطر أن يكون استخدام المصطلح من قبل السلطة الرقابية نفسها، مثل الخبر الذي يقول أن هناك ملايين من الدنانير «مختفية»!
نعم!! كيف تكون هناك «ملايين مختفية»؟! وأين «اختفت»؟! وكيف أصلاً «اختفت»؟! وكيف يقول لنا نواب مهمتهم مراقبة قطاعات الدولة أن «ملايين اختفت»؟! طيب، أين أنتم؟! أين رقابتكم؟! طيب، أين إجراءاتكم؟! أين محاسبتكم؟!
المصطلح بحد ذاته يجعل الناس تغتاظ، فكلمة «اختفاء» يمكن تفسيرها وفق أوجه عديدة، لكن كل تفسير هنا لن يخرج عن كونه ضمن حالات «محرمة» للتطاول على المال العام، وهي العملية التي تستوجب تدخل القضاء والقانون ليعاقب من يمد يده على أموال الدولة.
لعبة «المصطلحات»، والتي لا تلام فيها الصحافة، لأنها أصلاً من أدواتها المعنية بالإثارة ولفت الانتباه لخطورة وأهمية المواضيع، لكنها في المقابل تحمل أبعاداً أكبر، أولها وقعها على الناس وتأثر ثقتهم بالإجراءات التصحيحية إزاء هكذا حالات، وأيضاً وقعها على الدولة والأجهزة المعنية بعمليات الإصلاح والتصحيح، وكأن هناك جهوداً تبذل لكن بتداول هكذا «مصطلحات» فإن هذه الجهود تنسف وكأنها لم تكن.
الفكرة هنا بأن كل هذه التوصيفات تدخل تحت مظلة وصف واحد هو الأساس الذي يجب أن يعتمد، وأعني هنا مصطلح «الهدر المالي».
حينما أقول ضياع أموال، علينا أن نحدد حجمها -إن وجدت أصلاً وليست بناء على سيناريوهات لو ولو.. إلخ- وأن تعرف الأسباب، وكذلك حالات «الاختفاء» وهو المصطلح الذي لا يجب أن يقبل أبداً، لأن القبول به «كارثة»، والوقوف دون تحرك إزاءه «كارثة أكبر»!
عموماً، عمليات الهدر المالي موثقة في تقرير ديوان الرقابة المالية، هذا التقرير الذي تنشر الصحافة أجزاء منه بين فترة وفترة فيضج الناس وتنتشر الانتقادات، لأنه بالفعل توجد حالات لسوء إدارة وسوء تصريف أمور وسوء إدارة أموال، تجعلك تأسف على المال العام الذي كأن من يؤتمن عليه لا يبالي به، ولا يحرص على حفظه.
حتى لا يصل المواطن لمرحلة يظن فيها أن إهدار المال العام لبلاده عملية مستمرة والمتسببون فيها لا تتم محاسبتهم ومعاقبتهم في حال الوصول لمستوى الجنح والجرائم، أو أن الإجراءات الإدارية لا تتم وفق الآلية المطلوب تحقيقها، فإنه من المهم جداً، أن يتم التعامل مع الحالات التي فيها هدر مالي، تعاملاً فردياً كحالات يتم الإعلان عنها ونشر تفاصيلها والأهم نشر الإجراءات التصحيحية التي اتخذت لضمان عدم تكرارها، وإن كانت من حالات تحال للنيابة والقضاء، لا بد وأن يعرف المجتمع ما آل إليه مصير القضايا، وكيف أخذ قضاء البلد حق البلد وأهل البلد ممن استهتر بأموال البلد.