الرأي

زاوية من تاريخنا الذي نجهله

كلمــة أخيــرة



أطلق الإنجليز على الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة الكبير جد جلالة الملك حفظه الله لقب الشيخ «العنيد» وذلك حين كتبوا تقاريرهم، من وجهة نظر بريطانية صرفة حكوا روايتهم هم من الزاوية التي تمثل مصالحهم، في حين لو نظرنا للرواية التي وصفوه فيها بالعنيد من الزاوية البحرينية الوطنية لوجدناه مفاوضاً صلباً حافظ على المصالح الوطنية حين كانت المفاوضات تتطلب شخصية لها قدرة على الصمود في وجه الضغوط الكبيرة التي تمثلها القوى العظمى حين ذاك «بريطانيا».
والرواية التالية رواها أكثر من مصدر، البريطانيون كانوا أحد مصادرها والوثائق الأمريكية مصادر أخرى لها، ورواة من بيت الحكم مصدر ثالث، وحين جمعها أحد الرواة ستعرف لم أطلق على الشيخ سلمان بالعنيد؟!
عندما قامت الحرب العالمية الثانية كان الشرق الأقصى ممثلاً في اليابان أحد أطراف النزاع وهدد بقصف المصالح البريطانية في المنطقة وبذلك أصبح المحيط الهندي وبحر العرب والخليج العربي جزءاً من ساحات الحرب تجوبه الأساطيل اليابانية والطائرات الألمانية والإيطالية من جهة وكذلك تفعل البريطانية، مما جعل حركة «التجارة» تتأثر بشكل كبير بين منتجات الشرق والمستهلكين من دول الخليج، وتعقد الأمر أكثر حين صرحت قيادة الشرق الأوسط البريطانية في 16 أبريل 1946 «إن البحرين أصبحت منطقة للعمليات» وذلك يعني أن تكون موارد البحرين النفطية مسخرة لخدمة المصالح البريطانية في الحرب، وأن تخضع البحرين لنظام الحصص الغذائية.
تحكمت بريطانيا في حركة السفن والمرور عبر الموانئ التي تسيطر عليها، ومنها موانئ البحرين، وتحكمت في الأسواق الغذائية بغرض تقنينها تحسباً للطوارئ، فشحت المواد الغذائية عن المنطقة الخليجية كلها بل شحت حتى عن أوروبا خاصة المواد التي تنتجها دول مثل الهند وسيلان والصين ومن أهمها الأرز والطحين والسكر، وأنشأت بريطانيا غرفة مركزية لتوزيع الأغذية بنظام الحصص، فكان للبحرين حصة صغيرة جداً لا تكفي لإطعام شعبها.
تروي الوثائق البريطانية عن «عناد» الشيخ سلمان وهي تسجل وتوثق لإصراره في المفاوضات البحرينية البريطانية لشهور دون كلل أو ملل طالب فيها الشيخ بزيادة حصة البحرين، وعقدت عدة اجتماعات مع الغرفة المركزية لمجلس التموين وكان الرفض يأتي دائماً جواباً حاسماً لمطالب البحرين، إلى أن أدخل الشيخ سلمان عامل ضغط جديداً في المفاوضات وهو النفط! فأصر على اعتبار النفط البحريني أو المكرر في مصفاة البحرين سلاحاً من أسلحة الحرب التي تحظى به بريطانيا بتسهيلات بحرينية وساوم عليه مقابل الغذاء ومقابل أولوية الشحن للبحرين.. فأسقط في يد البريطانيين واستجابوا لمطالب شيخ وصفوه بـ«العنيد» لأنه حافظ على مصالح شعبه وضغط عليهم مثلما ضغطوا عليه.
خاض الشيخ سلمان مفاوضات أخرى حول ذات الموضوع حين أصر على وضع خطة للطوارئ لتقنين وتوزيع الأغذية بالبطاقة ووضع خطة لمنع إعادة التصدير، ولأن النظرة كانت سائدة عن مجتمعاتنا بالقصور والتخلف، شك البريطانيون في قدرته على تنفيذها لعدم وجود قاعدة بيانات هي من أولويات المحاصصة، إنما فوجئوا لا بإصراره بل فوجئوا بقدرة البحرينيين التنظيمية لدى الجهاز الحكومي والانضباط والتنسيق بين إداراته الجمارك والبلديات والتجارة في الأسواق، بشكل أثار إعجابهم وذكروا ذلك في وثائقهم.
النتيجة أن البحرين كانت أقل الدول التي تضررت في المنطقة إبان الحرب العالمية الثانية وفي الوقت الذي انعدمت أو شحت تلك المواد من دول الخليج العربية، كانت البحرين أقل الدول تضرراً واستمرت الحركة التجارية فيها و«بقيت الأجور على مستواها العالي والأشغال متوافرة وتكاليف المعيشة لم تشهد ارتفاعاً ملحوظاً» التقرير السنوي.
«العناد» من وجهة نظرهم كان تمسكاً بالمصالح الوطنية من وجهة نظرنا، تقاريرهم تعكس الموقف من جانب مصلحتهم لا من جانب مصلحتنا، ولو كتبنا نحن هذه الرواية لوصفنا الموقف من زاويتنا ولقلنا إن الحاكم تفاوض وأصر وتمسك بمطالبه رغم علمه بأن «غضب» الإنجليز في تلك الفترة «لعناده» -خاصة وهم يخوضون حرباً عالمية- قد لا يكون في صالحه كحاكم، ولو فكر في مصلحته الشخصية فقط لكان تجنب إغضابهم وتجنب التمسك بمطالبه، إنما التفاوض فن يحتاج لخبرة تعرف فيها أوراقك التي بإمكانك أن تستخدمها وتعرف متى تستخدمها، والوطنية قد لا تكون شعاراً مرفوعاً أو حتى سلاحاً يرفع، فقد تكون موقفاً تعرض فيه مصالحك الخاصة للخطر مقابل صالح وطنك.
اليوم إن تبدلت الدولة التي لنا معها مصالح مشتركة وأضيفت لبريطانيا الولايات المتحدة الأمريكية دولة نتفاوض معها على أمننا ومصالحنا، إنما بقيت مبادئ التفاوض والمصالح الوطنية لم تتبدل هي ذاتها، ولن يضيرنا أبداً إن كانت البحرين «عنيدة» في تفاوضها على مصالحها، تتفاوض وهي تعرف أن لديها أوراق قوة وأن لديها ظهراً يسندها من شقيقتها الكبرى فلا تتردد في «المعاند» إن استدعت المصلحة الوطنية ذلك، وتقاريرهم الأمريكية أو البريطانية منها ستظل تروي حكايتنا من وجهة نظر مصالحهم فلا يجب أن نقف عندها ولا أن تقلقنا تلك التقارير.
تلك الرواية استقيتها ورويتها بتصرف من كتاب اندرو ويتكروفت «حياة وعصر صاحب السمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة» حيث جمع زواياها ونظر لها من زاويته الأمريكية فأنصف الشيخ سلمان مختلفاً عن المصادر البريطانية للرواية، جمع معلوماتها من مذكرات اتش ام هيرون في شهادته للجنة خاصة في الكونغرس الأمريكي، ودراسة لبرنارد شافرن نشرها في مجلة الشرق الأوسط والنفط والقوى الكبرى. لندن 1956. تاريخنا مليء بالعبر لكننا لا نقرؤه مع الأسف، وهناك زوايا جميلة في تاريخنا معتمة ليس لأنها لا تستحق أن تروى، بل معتمة لأننا لا نعرف عنها شيئاً ويعرفها الآخرون أكثر منا.. ليتنا نروي حكايتنا بلساننا لا بلسانهم.