الرأي

الكي آخر الدواء

كلمــة أخيــرة


يصعب على أي دولة أن تعمل على توحيد الصف ولمّ الشمل وإلزام جميع المواطنين بالاحتكام للدستور والقانون وهناك من يعلن ويشاهر بعدم اعترافه بقانون الدولة ويحرض المواطنين على عدم الانصياع له، ومواطن يعلن مشاهرة عدم الانصياع للقانون ويضع نفسه فوقه وفوق الدستور والدولة أسقط عن نفسه استحقاقات المواطنة بنفسه، فاستحق أن تسقط عنه الدولة جنسيته، فلا حق بلا التزام وواجب، وهذه قاعدة تنطبق على أي حامل لشرف الجنسية البحرينية أياً كان مذهبه أو دينه أو أصله أو فصله.
البحرين أحوج ما يكون لتقوية جبهتها الداخلية وتعزيز النسيج الاجتماعي وتثبيت دعائم دولتها في ظل هجمة شرسة على المنطقة ككل، انظر ما قاله رئيس الـ «سي أي إيه» إن دولاً كالعراق وسوريا ولبنان ستختفي من على الخارطة، فهل ننتظر حتى يضيف لها البحرين؟
التحدي اليوم الذي نواجهه كمواطنين هو هل ترسيخ دعائم الدولة مقابل هذه الهجمات الخارجية، فهل نحن دولة أم لا دولة؟ هل دعائم دولتنا قوية لتصمد أمام هذه الهجمة أم دعائمها مهترئة يستطيع مواطن تم منحه الجنسية في الستينات أن يحرض المواطنين على التمرد عليها؟ كيف للبحرينيين أن يتلمسوا بناء دولتهم وبينهم من يحرضهم على هدمها والدولة تتفرج؟ ومن من؟
في 14 أغسطس 2011 في مجلة الـ «فورين بوليسي» كتب علي الفونة الخبير في الشؤون الإيرانية مقالاً مطولاً عن عيسى قاسم باعتبار هذا الشخص ضمن السياق الإيراني ويفرض رأيه على الطائفة الشيعية في البحرين ويصر على التحدث باسمهم قال فيه: «والحقيقة أن المواقف المتشددة تجاه الشأنين: المحلي والخارجي هي جزء من تكوين عيسى قاسم الذي أضاف إلى تنشئته الثورية المبكرة في حزب الدعوة في الستينيات، ودراسته في الحوزة الدينية بقم، وعضويته في المجمع العالمي لأهل البيت الذي يضم مجموعة من أكثر الشخصيات الدينية تطرفاً والتصاقاً بمفهوم ولاية الفقيه.....»، ثم يكمل «وفي الوقت الذي تتقدم فيه مختلف القوى السياسية بأطروحات ذات طابع حداثي يتناسب مع المستجدات التي طرأت في الألفية الثالثة إلا أن الوعي السياسي للشيخ عيسى قاسم لا يزال يراوح عند مرحلة النكسات التي منيت بها منطلقاته النظرية وتكوينته الإيديولوجية في مطلع السبعينيات»، انتهى.
أصاب علي الفونة في وصف هذه الخلفيات الشخصية لعيسى قاسم وهي صحيحة مائة في المائة وكانت سبباً من أسباب عزل جماعة «الولي الفقيه» عن المجتمع البحريني وعن الدولة وإبقائهم تحت عباءته الدينية كبديل عن المواطنة والانتماء للبحرين كدولة، فأضرهم أيما ضرر يدفع الكثير من أبنائهم ثمنه اليوم، بل كانت هذه الخلفية للشخصية سبباً في تعطيل اندماج الجناح السياسي لجماعة «الولي الفقيه» في النشاط السياسي وفق الأطر الدستورية، وسبباً في بعد الكتلة السياسية عن العمل الاحترافي المهني البرلماني وارتهانها لفتواه ومرجعيته بدلاً من الدستور.
بل إن صراعه الفقهي الذي وظفه في التنازع على جمع الخمس مع الأجنحة الشيعية الأخرى كالشيرازيين، ساهم في تفتيت البيت الشيعي الداخلي بحد ذاته، إذ يذكر على الفونة في ذات المقال أنه «يمكن ردّ جذور المنافسة بين التيارين إلى التنافس السياسي والاقتصادي بين النجف وكربلاء، وبالأخص بين آية الله محمد الشيرازي في كربلاء والمؤسسة الدينية في النجف. وفي الستينات من القرن العشرين، تقرب آية الله الشيرازي من آية الله العظمى الخميني الذي كان منفياً في العراق من أجل مواجهة المؤسسة الدينية في النجف، كما وكلف ابن أخيه هادي المدرسي، الذي كان يحضر محاضرات الخميني السياسية في النجف، بجمع الخمس من الشيعة في البحرين، وهو عبارة عن فروض ضرائب سنوية بقيمة الخمس من الربح. وحدث أول الأمر أنّ الشيخ قاسم وآخرين من طلاب آية الله الصدر قد تجاهلوا نشاطات الشيخ الشيرازي في البحرين. بيد أنه حين تقدم المدرسي بطلب جنسية بحرينية وحصل عليها في سنة 1974، أدرك نشطاء الدعوة بأن الشيرازيين ما أتوا إلى البحرين إلا كي يبقوا. وهكذا أصبح كل خمس دينار يجمعه آية الله الشيرازي بمثابة دينار يخسره ممثلو آية الله الصدر.
وسرعان ما اندلع صراع عنيف بين الفصيلين حول الاستحواذ على أموال الخمس الشيعية. وتسابق الشيخ قاسم والمدرسي فيما بينهما من مسجد لآخر ومن مأتم لآخر في سبيل جذب أكبر عدد ممكن من التابعين ومن أموال الخمس» انتهى.
وخطأ الدولة كان في التغاضي عن هذا الصراع واليوم تدفع ثمن تغاضيها عن تلك الصراعات على الدينار بين المراجع الدينية دون رقابة ودون شفافية، حتى أصبح دينار الخمس أداة سطوة دينية وسياسية معاً، وكلما زاد الخمس ديناراً زادت السطوة وزادت الحظوة لدى المراجع الكبرى الإيرانية، وها هي البحرين تدفع ثمن تغاضيها عن عزل القرى وعزل ساكنيها وإحاطتهم بالسور الطائفي منعاً لخروجهم من سطوته.
مع وجود شخصية متطرفة كهذه مرتبطة بإيران، كيف للشيعة أن يتحرروا من هذه السطوة ويعيدوا تموضعهم كمواطنين في الدولة؟ لهم ما لغيرهم من المواطنين وعليهم ما على غيرهم من الالتزامات؟ كيف للدولة أن تضع خطط الدمج والصهر والانخراط في التنمية؟ كيف للدولة أن توحد البيت وتعيد اللحمة وترسم سياستها المستقبلية في مواجهة تهديدات خارجية في حين أن التهديدات المحلية أشد وأمضى؟
يقال إن الكي آخر الدواء ولضمان الشفاء لا بد مما ليس منه بد.