الرأي

عندما نكبر

رسائل حب


شريط من الذكريات يجول في خاطرك كلما تقدمت في العمر، وكلما جلست على شاطئ الحياة تتأمل حياتك وسرعة انقضاء أيامك، وتتأمل تلك الذكريات الجميلة منها والمؤلمة، وتتذكر سلسلة متتالية من المواقف التي ساهمت في تغيير نمط حياتك.. الشريط يتكرر بين الفينة والأخرى كلما أيقنت أن حياتك تتصرم وأيامك في الحياة تقترب من الرحيل إلى عالم آخر هو نتيجة عملك في دنيا قصيرة.. شريط ينبهك إلى ماضٍ مضى ويوم متسارع سيرحل ومستقبل مجهول لا تعلم كيف ستكون خطواته..
عندما أقابل تلك الوجوه النيرة التي عشت معها سنين الخير وخبرات الحياة، وكانت منها انطلاقتي إلى بصمات الأمل في ميادين العطاء والتطوع، عندما أقابلها أبادلها همسات الحب وعشق الخير وابتسامات العطاء.. أبادلها حب السنين الجميلة، وتعانق الأرواح طاعة لله وحباً فيما أحده للمتحابين فيه.. عندما أقابلها أهمس في آذانها.. أنتم بلسم الحياة وعشق الخير.. فقد تعلمت منكم الكثير.. واستفدت من عطائكم الخصب ونظراتكم الثاقبة للحياة.. استفدت من تجوالكم في القلوب الذي علمني أن أكون فراشة تتجول في قلوب البشر، تلون حياتها وتسعدها وتبصم فيها بصمة الأثر الخالد.. تعلمت منكم أن أكون ذلك القلب الصابر الذي يصبر على ملمات الحياة، ويكون فيها الجبل الشامخ الذي لا تهزه رياح السنين.. تعلمت أن يكون هدفي رضا ربي وكل خطواتي من أجل المسير نحو الفردوس الأعلى.. فلا أعمل من أجل أن يرضى عني البشر.. أو أتسلم شهادة تقدير.. أو يتصدر اسمي على صفحات الجرائد.. بل أعمل من أجل أن أزرع في قلبي ذرات الخير.. وذرات الطمأنينة والسكينة والثقة.. ومن أجل أن أكون شامة خير في حياة كل من أقابله.. تعلمت منكم أن ميادين الخير كثيرة وعديدة.. لا تكون في ميدان صغير منحصر في هامش الحياة.. بل هي الحياة كلها.. نوطن فيها كل أنواع المحبة والخير.. ونزرع كل صنوف ثمار العطاء.. فخطواتنا هي من تتحدث عنا وعن آثارنا.. فالاسم الخالد هو من استطاع أن ينحت أثره في كل ميدان وفي كل مساحات الحياة.. وأثره بدعاء خالص لكل جيل قرأ الاسم ودعا له بالخير وعظيم الأجر..
عندما نكبر نحس بما أحسه أعز الناس في حياتنا والدنا الحبيب وأمنا الغالية.. «رحم الله أمي وأبي الغاليين».. نحس بما بذلاه في حياتنا.. تعبهما وكدهما ونصبهما وبذلهما وسهرهما.. نحس بآلامهما وتفكيرهما الذي لا ينتهي بنا.. نحس بدمعتهما الساخنة التي كلما دمعة عيناهما فكرنا.. لماذا يا ترى تلك الدمعات؟ اليوم عندما كبرنا وأنجبنا.. عندما تمر سنة تلو الأخرى من أعمار أبنائنا.. عندما تمر سنة تلو الأخرى من أعمار من مروا علينا في ميادين التربية.. نحس بالفعل أننا كبرنا بأفعالنا وحجم أعمالنا في الخير.. ولكن نظل نتأمل تلك الأفعال الكبار.. ونظل نتأمل تعب الآباء والأمهات.. ونظل نتأمل تلك اللحظات التي انقضت في ميادين الخير وبذلناها للأبناء.. أحسسنا أننا مهما بذلنا سنكون مقصرين.. مهما بذلنا فلن نقوى أن نكون تلك القامات الكبيرة التي برز من خلالها جيل الماضي من الآباء والأجداد.. فقد عاشوا من أجل لمة العائلة الجميلة، وعاشوا من أجل أن يزرعوا الحنان والعطف، ويشيدوا الأجيال الحنونة التي تحب وطنها وتحب أفراد أسرتها، وتلبس ثياب الأخلاق الكريمة..
يقول المولى الحكيم: «والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء، كل امرئ بما كسب رهين».. ورد في تفسير ابن كثير: «أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يحلقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم. قال الثوري: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل، لتقر بهم عينه».
بالفعل هي رسالة يكتبها كل الآباء وكل الأمهات في كل جيل من أجل أن ينعموا بالتلاقي في الآخرة.. رسالة تبدأ منذ اللحظات الأولى للحمل ومن ثم الولادة.. لتواصل كتاب فصول الحياة بإنجازاتها وشواهدها حتى لحظة الانفصال الجديد للأبناء بتكوين أسرة جديدة، وبداية قصة جديدة.. ليبدأ معها قصص الرحيل المر من البيت الذي جمع الجميع في مساحة صغيرة.. تبادلوا معها الضحكات والهمسات وحتى الصراخ أحيانا مع مشاغبة الأبناء.. فهم لا يحسون بها إلا إذا افتقدوها في ساعة الرحيل عن البيت الجميل.. سيظل يتذكر الجميع تلك اللمسات الحانية والمواقف العابرة.. اسمحوا لي أن أكتب بعضها لأنها البلسم الجميل الذي يذكرنا بأنس الحياة.. حتى نلقاها بعون الرحمن في الجنة الغالية عندما يحين الوقت للالتقاء.. «صبحك الله بالخير يبه الغالي.. ربي يسعدك ويوفقك ويطول في عمرك.
يمه الغالية أتمنى إنك راضية عني.. يارب يجعلني أبر فيك حتى نهاية حياتي.
أمي وأبوي انتوا كل حياتي.. رضاكم كل سعادتي.. وابتسامتكم فرحة في قلبي.
يا أعز من في الحياة.. ضمتكم سكينة لي.. ودعواتكم توفيق حق حياتي.. اسمحوا لي.. واعذروني عن كل تقصير.. عن كل دمعة نزلت لأني ما وفيتكم حقكم.. وعد مني أكون سبب فرحتكم.. وربي يبلغكم وتشوفوني في أعلى المناصب.. وتشوفون فرحتي على مسرح العرس.. بس ما بتكون لحظة الفراق عنكم... ولكن عمر جديد في بركم والتواصل وياكم.. أنتوا كل فرحتي وكل دنيتي وسبب لدخول الجنة.. أنتوا الحب اللي أشوفه في كل ميدان.. يارب طول في عمر أمي وأبوي وبلغهم فيني»..