الرأي

النجم الذي هوى في باريس

شرق وغرب



كانت المرة الأولى والأخيرة التي التقيته فيها، في نوفمبر من عام 2011 أي قبل أربع سنوات بالضبط، في ندوة حملت عنوان: (المشتركات الفكرية بين الصابئة والأديان السماوية الأخرى)، والتي عقدها منتدى الفكر العربي في العاصمة الأردنية عمان، استمرت الندوة قرابة الأربع ساعات، كان فيها ضيفاً أساسياً، وكانت عيناه ترقب باستمرار زوجته التي أتعبها المرض، وكان يقول لم يبق لها أحد غيري؛ فأولادنا الأربعة توزعوا على أربع قارات، فلا أسافر ولا أشارك في ندوة أو مؤتمر إلا وأصطحبتها معي خوفاً عليها.
يومها ألقى أكثر من قصيدة كان لها وقع السحر على آذان مستمعيه، وتحدث لأكثر من ساعة عن تجربته في ترجمة الكتاب المقدس عند الصابئة المندائيين (كنزاربا)، وكيف أنه منذ طفولته كان يتقن اللغة الآرامية المندائية التي كتب بها الكتاب، لكنه لم يشأ ترجمته إلا بعد إتقانه التام للغة العربية، وأذكر على نحو دقيق العبارة التي استخدمها تعبيراً عن ذلك قائلاً (لم أترجم «الكنزاربا» إلا بعد أن أحسست أني وصلت إلى مرحلة تجعلني أقف على حافات اللغة التي نزل بها القرآن الكريم)، كان ذلك شاعر العراق والعرب، عبدالرزاق عبدالواحد.
أربع ساعات في ذلك اليوم الماطر كانت بالنسبة إلي فرصة ثمينة قربتني من ذلك العملاق الذي كنت أراه على شاشات التليفزيون، وأقرأ شعره الذي فاق فيه شعراء عصره، ومن الملاحظات التي دونتها على هذه الشخصية الفذة أنه كان يعرف عن دينه أكثر مما يعرف أحد كبار رجال الدين الصابئة الذي كان هو الآخر ضيفاً أساسياً في الندوة، فكان عبدالرزاق عبدالواحد مدافعاً شرساً عن دينه، في الوقت نفسه كان يحترم الأديان الأخرى احتراماً شديداً ويتكلم بموضوعية قل نظيرها.
أما حديثه عن العراق فكان له لون آخر، حيث لم تجمعني ساعات بشخص تكلم فيها عن بلده بحرقة كتلك الساعات التي جمعتني به.. تشعر وأنت تراه يتكلم عن العراق كأنك أمام رجل فجع بأولاده كلهم، فعندما يسأل عن العراق يتغير لونه ويبتلع حسرته ليتمكن من الإجابة بعدها، ولا أظن أن أحداً يستطيع المزايدة عليه في هذا، كان همه الأكبر موعد العودة إلى العراق وحلمه أن يدفن في بغداد.
عبدالرزاق عبدالواحد صاحب منجزات إنسانية غير مادية، بها وبمثلها في المجالات الإنسانية والمادية تتكون وتبنى حضارات الأمم، ولا شك أن برحيله عن الحياة الدنيا هوى نجم من سماء العراق أضاء في مرحلة مفصلية من مراحل تاريخه، لكن هذا النجم هوى في باريس ولم يهو في بغداد كما تمنى، فختم حياته بقصيدة يقول في أول بيت منها: يا عراق..
خوفاً على قلبك المطعون من ألمي
سأطبق الآن أوراقي على قلمي
وداعا أبا خالد...