الرأي

«الناصح العدو»..!!

أبيــض وأســود


لم يترك لنا التاريخ أمراً إلا وقد كان فيمن قبلنا حوادث ووقائع تماثل ما بين أيدينا اليوم، أو تكاد تكون نسخة منها، حتى وإن اختلف الزمان والمكان واختلفت الظروف والمعطيات.
اليوم وسط كل هذه الموجات من التدافع والاقتتال والفتن، ومن الدماء التي تسيل؛ فلا يعرف القاتل لماذا قَتل ولا يعرف المقتول لماذا قُتل، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آخر الزمان.
إنه زمن يصبح فيه الحليم حيران، يضرب خمساً بخمس، ويقول ماذا عساني أن أفعل؟ وأين يجب أن أقف؟ وكيف يجب أن أتكلم؟ ومع من يجب أن أتكلم؟ صرنا في زمن قاسٍ مرير، وصرنا كبشر نخشى حتى من كان قريباً منا؛ فنسر له أمراً وإذا به عدو متلبس بثوب الأخ والصديق والمخلص؛ إنه آخر الزمان.
حين تستجد أمور على المواطنين، وقد تختص بحياتهم المعيشية، فإننا أحياناً نتساءل بيننا وبين أنفسنا ونقول؛ من الذي اقترح أن يتخذ هذا القرار في هذا التوقيت الحساس، وفي هذه الظروف المضطربة؟
هل هناك من يتدثر بثوب الناصح ويقول كلاماً يحب سماعه من بيده القرار، فيوهمه أن هذا هو القرار الصحيح، في هذا التوقيت الهام؟
السؤال هنا؛ هل لدينا من يطلق عليهم «العدو الناصح»؛ فيوهم الآخرين أنه من باب النصيحة للدولة أن يحدث كذا وكذا، وأن يُتخذ قرار كذا وكذا، قبل فوات الأوان؟ ويكون كلامه في ظاهره (الرحمة) بينما في باطنه (العذاب)..!
هل يوجد بين ظهرانينا من يقوم بمثل هذه الأدوار ويجعل الدولة تتخذ قرارات لها تأثير مباشر على حياة الناس؟ ويقول إن لم نقم به اليوم سيكلف الدولة كذا وكذا، ويأتي بالأرقام والشواهد، ومن ثم يجعل الآخرين يصدقون طرحه ويتبنون رأيه.
لكن هذا الرأي الذي تدثر بالنصح والخوف على مصلحة الدولة، ربما يكون هو الذي يتمنى أن تأتي موجات الغضب والحنق ولو بعد حين، أو أن هذا الغضب يحتاج إلى بعض التراكمات والضغوطات حتى ينفجر، وحينها يفرح أيما فرح، ذلك العدو الناصح، فقد تحقق له ما يريد، وهو أن تتدحرج كرة الثلج فتكبر كلما انحدرت فلا يوقفها شيء.
وحين تقع الكارثة سيختبئ ذلك العدو الناصح، وإذا ما نظر إليه أحد ظهر وكأنه لا يعلم لماذا حدث ما حدث، وتجده يقول إن هناك أخطاء من الدولة أدت إلى ذلك، هكذا سيقول، أو ربما ينقلب على الدولة ويظهر وجهه الحقيقي..!
بينما كل ما حدث إنما بسبب (نصيحة العدو) التي كان ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، فقد أوهم هذا العدو أن الخير كل الخير للدولة والمواطن فيما يطرح ويقول، ومع عميق الأسف والأسى هناك من يصدقه..!
العدو الناصح أشد خطراً على الدولة ومستقبلها من العدو الظاهر الشاهر، فذاك تعرفه تماماً ويكون مكشوفاً، لكن الذي يقف جنبك ويصافحك بود وبحب (أصفر) هو العدو الحقيقي، وهو الكارثة على الدولة أكثر من العدو المكشوف.
أحد أمثلة العدو الناصح ربما ظهر في فترة ما وقام بتكبيل الدولة بالتوقيع على اتفاقيات كانت سبباً في تسديد فاتورة باهظة الثمن في 2011، فقد كانوا يوهمون الدولة أن ذلك سيحسن صورتنا وموقفنا عند الغرب وعند المنظمات الدولية، غير أن تلك الدول وتلك المنظمات كادت تقصم ظهرنا بمواثيقها واتفاقياتها وما جنيناه على أنفسنا.
العدو الناصح قد يكون من كل طيف، وليس حصراً على طيف واحد، فمن هؤلاء الحذر، ومن هؤلاء يبدأ تسرب الماء إلى السفينة حتى تكبر وتتوسع فتحات الماء تدريجياً، وحين نستفيق وننتبه يكون الوقت قد أزف وفات، وتكون السفينة امتلأت بالماء، فلا ينفع تنبيه ولا تُسمع استغاثة.