الرأي

الصندوق الأسود لـ «حزب الدعوة»

تحت المجهر







لم يأتِ البرنامج الوثائقي «الصندوق الأسود» الذي كثر التطبيل له، والذي عرض الخميس الماضي، من غرفة أخبار قناة «الجزيرة» الفضائية عن مسيرة حزب «الدعوة» العراقي، وفترة حكم الطاغية نوري المالكي للعراق، للفترة من 2006 لغاية 2014 بجديد.
فكل ما تم عرضه من وثائق ولقاءات وشهادات يعلمها الشعب العراقي جيداً، وقد عاش جميع فصولها، بل أن هنالك جهات عراقية عديدة قد وثقتها أفضل بكثير من توثيقات «ويكيليكس»، وستخرج يوماً للعلن لتفضح الدور الأمريكي الشرير في تدمير العراق، والاستعانة بأشد أعدائه إيران «المجوسية» وميليشياتها الدموية.
لكن الآلة الإعلامية الضخمة والقوة المتغطرسة وتشويه الحقائق والتي كانت تروج لفترة حكم «حزب الدعوة»، وذلك الطاغية من قبل إيران وجنرالاتها وأمريكا وشركاتها حاولت جاهدة أن تغض الطرف وتغطي بل تدعم كل انتهاكاتهم التي تصل أقلها جرماً بسوقهم إلى محكمة العدل الدولية.
ليس خافياً على أحد التاريخ الأسود لـ «حزب الدعوة جناح العراق» وارتباطه بالولي الفقيه، وموقفه المعادي للشعب العربي والعراقي منذ تأسيسه، وما تم عرضه من سجله الإجرامي، هو نزر يسير، ومنذ ذلك الحين لم تتقدم أمريكا بوضعه ضمن لائحة الإرهاب، وكانت تعده وقياداته بالاشتراك مع عدوها التقليدي إيران لتسليمه مقاليد الحكم في بغداد بعد سقوط نظامه الوطني.
لقد التقت المصالح الأمريكية والإيرانية في ذلك البلد، وبرز بعد السقوط عدو مشترك واحد لتلك القوتين، وهو الطرف السني الذي بطبيعته وتركيبه ينفر أيما نفرة من سطوة إيران وثورتها، ولايطيق أبداً الاحتماء بعباءة مرشدها، كما وقف بالضد من مصالح أمريكا التي كانت مرحباً بها من بعض المراجع والكثير من أتباع الطائفة الشيعية الذين اعتبروا بوش الابن فاتحاً ومحرراً، فيما اتخذ الطرف السني الموقف المتشدد الذي أصر على اعتبار الغزو الأمريكي هو احتلال بغيض، والتحموا في مقاومته وقتاله وإذلاله. فمال الطرف الأمريكي إلى الكفة الأولى، وعملوا سوياً في الإسراع بترتيب البيت الشيعي، وتسليمه مقاليد الأمور، والخروج سريعاً من المستنقع.
من هنا بدأت العمالة المزدوجة لأركان «حزب الدعوة»، بل كل الأحزاب التي أتت مع الدبابة الأمريكية من ليبراليين وعلمانيين، فبدأت تحج لواشنطن وقم والنجف.
المصالح الأمريكية في العراق هي مصالح اقتصادية بحتة، فلو حقق قادة السنة في العراق والذين كانوا ومازالوا يحبون في السياسة ومكرها ما تصبو إليه أمريكا لاصطفت معهم ولم تناصبهم العداء لكونهم سنة، بل ناصبتهم العداء وتجاوزتهم، لأنهم لا مرجعية ولا انضباط لهم والقاعدة الشعبية السنية العريضة لا تعترف أساساً بتمثيلهم، واتخذت لوحدها موقفاً رافضاً ومقاوماً لقواتهم الغازية، مما جعلهم يدفعون الثمن باهظاً باستهدافهم ثم بتمكين ميليشيات إيران منهم.
أما المصالح والأهداف الإيرانية في العراق فهي خليط بين العقائدية والاقتصادية، لكن على الا تتضارب مع المصالح الأمريكية، وبطبيعة الحال لا يمكن لإيران أن تبسط نفوذها دون موافقة أمريكية مسبقة، ودون تحييد، والقضاء على سنة العراق أو عزلهم كسنة الأحواز، ومن هنا بدأ مسلسل العنف الإيراني الرهيب المدعوم أمريكياً، لعدو مشترك، والذي خلف ملايين القتلى والمشردين، وأدخل العراق في دوامة عنف من الصعب في الوقت المنظور الخروج منها.
لا يتوهم أحد أبداً أن إيران قد لوت ذراع أمريكا واستولت على العراق وأخرجتها صفر اليدين، فإيران هي إحدى أدوات المشروع الأمريكي في العراق والمنطقة، وهي تناور بها في الشام والخليج واليمن والكثير من الدول.
لن يقبل بهذا الدور المهين أي تجمع أو حزب عراقي وطني أصيل، فاستبعدت كل الأحزاب والشخصيات الوطنية وتم تصفية قياداتها وتشريدها، وارتضى «حزب الدعوة»، وباقي التشكيلات الدينية شيعية وسنية ذلك الدور، وسلموا مقدرات البلاد لعقود مقبلة، ورهنوا خيراته لصالح الشركات الأمريكية، لقاء غض الطرف عن سرقاتهم وانتهاكاتهم، وقد وقع كل تلك العقود المكبلة للعراق «ابن العلقمي» المالكي وطاقمه الفاسد.
كل تلك الحقبة الحالكة السواد التي مرت بسماء العراق ما زالت جاثمة عليه، كانت بمباركة من المرجعيات، التي أضافت على أولئك القادة المجرمين الفاسدين الهالة والقدسية الدينية، والتي ضحكوا بها وأضلوا الناس بشهاداتهم الزور، وكانت في كل دورة انتخابية تنافح عنهم، وتوجه الشارع الشيعي بانتخابهم، أما توجيهاً مباشراً من المرشد خامنئي، والتلويح بعصاه الغليظة، أواجتهاداً وتخوفاً من مراجع النجف من عزوف الناخب الشيعي عنهم، والذي كشف بالملموس فسادهم وإجرامهم، وكانت المراجع تخشى سقوطهم، وتغير كفة الميزان لصالح طائفة السنة، وبالتالي عودة البعثيين ربما إلى الواجهة، فكانت تتغاضى عن فسادهم، وهي شاهدة ومشتركة في الجرم، بسكوتها عنهم تارة وتأييدها المطلق لهم تارة أخرى.
ما الذي تغير في السياسة الأمريكية اليوم؟ ولماذا تسمح «الجزيرة» وغيرها بالهجوم الشرس على عميل أمريكا المالكي وحزبه لتعريته؟ ولماذا في هذا التوقيت الحرج بالذات تنفض أمريكا يدها منهم؟ وهل ستتجاوز تلك الإدارة الخطوط الحمراء لتسمح بالكشف عن الدور الكبير الذي لعبته بعض مراجع الشيعة وربما عمالتها المزدوجة في تدمير العراق وإبرام الصفقات المشبوهة والتي نوه عن بعضها دونالد رامسفيلد وبول بريمر في مذكراتيهما؟!
لاشك في أن هذا الصندوق الأسود مليء بالمفاجأت للعالم، لكن ليس للعراقي الذي شاب رأس شبابه، قبل شيبه، ويعلم أسرار كل ذلك الصندوق قبل بوحها، وفي زواياه تركن عمائم أجرمت بحق دينها وشعبها.
ولن يبقى أبداً سر مدفون ولن يفلت من الملاحقة والعقاب خائن وطاغية مفتون!!