الرأي

سبل مواجهة الإرهاب والحروب الرقمية في الفضاء الكوني.. القوة الذكية

سبل مواجهة الإرهاب والحروب الرقمية في الفضاء الكوني.. القوة الذكية







إن الأوضاع المقلقة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط من تفشي ظاهرتي التطرف الفكري والإرهاب الذي تمارسه جماعات ما دون الدول من جهة، وخطط بعض الدول العظمى ومؤسساتها الدولية الهادفة لتفتيت المنطقة من جهة أخرى، يحتم علينا إعادة قراءة المشهد الإقليمي من منظور عالمي مختلف، وبأسلوب مغاير لم تعهده أفكارنا ولا مؤسساتنا التقليدية في الماضي. وتكتسب إعادة القراءة هذه أهمية بالغة حتى نتمكن من فهم ما يجري من حولنا، في ظل التغيرات الكبيرة والتحولات المتسارعة في الحياة المعاصرة، التي تحركها أدوات وتقنيات رقمية بالغة التعقيد، وتكمن فيها قوى خفية لم يتم حتى الآن -من وجهة نظري- معرفة حجمها الحقيقي ولا تقدير مداها.
جذور القوة الذكية..
غزو الفضاء الكوني
لو عدنا إلى أول الخيوط التي نسجت هذا التحول في عالمنا المعاصر، ونقلت الإنسان من الحياة العادية بأبعادها الثلاثية التقليدية إلى فضاء الكون الفيزيائي غير الخاضع للحدود الرياضية التقليدية، ولا إلى مفاهيمنا العقلية البسيطة التي تأقلمت مع بيئة الأرض عبر قرون عديدة مضت. ففي العشرين من شهر يوليو عام 1969، نجحت وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» في وضع أول إنسان على القمر، وقال حينها نيل أرمسترونغ جملته الشهيرة: «هذه الخطوة لرجل، ما هي إلا قفزة عملاقة للبشرية». والقفزة العملاقة التي حدثت خلال حوالي عشرين سنة بعد هذا الإنجاز العلمي الباهر، هي بالتأكيد الثورة المعرفية وأدواتها الرقمية، التي لم تتمكن معظم الدول النامية -حتى الآن- من فهمها أو حتى مسايرتها ولا امتصاص إرهاصاتها.
وتبين الدراسات المتخصصة بأن القوة المعرفية التي استخدمتها الولايات المتحدة لوضع إنسان على القمر عام 1969 كانت تعادل القوة الكامنة في الجيل الثاني من الحاسوب الشخصي الذي بدأ بيعه في الأسواق العادية عام 1983. أي أن «ناسا» كانت تمتلك تقنيات علمية تسبق تلك المتوفرة للمؤسسات والأفراد العاديين بحوالي 15 سنة. وما يعنينا هنا هو القوة المعرفية التي امتلكتها العديد من دول العالم النامي منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي وحتى يومنا الحاضر، فقد امتلكت قوة رهيبة من خلال أجهزة الحاسوب التي يتم استخدامها لأداء الأعمال الحسابية التقليدية، دون النظر إلى ما كان بالإمكان تحقيقه بعيداً عن التطبيقات الاعتيادية.
ثورة المعلومات.. الجيل الثاني من القوة الذكية
ومع التطور العلمي الكبير الذي حدث في منتصف التسعينيات من القرن العشرين، نضجت التقنيات الرقمية، وتفجرت ثورة المعلومات التي خلقت فضاء جديداً للعالم أجمع، تساوت في بداياته المجتمعات المتقدمة مع النامية، واشترك الجميع في سبر أغوار فضاء الكون الجديد من خلال التواصل عبر شبكة الإنترنت، والذي عرف فيما بعد بالفضاء الرقمي (Cyberspace). واستطاعت هذه الشبكة أن تخلق فضاءً مغايراً تخلص فيه سكانه من العديد من المفاهيم التقليدية التي توارثتها البشرية عبر تاريخها الطويل. وتمكن الأفراد في المجتمعات النائية من التحرر من أوضاعهم عن طريق هذه الشبكة، وتمكن الأفراد العاديون من الحصول على خدمات كانت مقتصرة في الماضي على الحكومات والشركات العملاقة والأثرياء، مثل خدمات التحدث الهاتفي حول العالم دون حواجز ولا قيود، وبمبالغ تكاد تكون مجانية في معظم البرمجيات المتوفرة على شبكة الإنترنت، والتي كانت المكالمة الواحدة منها تكلف قبل الإنترنت عشرات الآلاف من الدولارات.
ومع هذا التحول الجذري في الحياة اليومية للشعوب، ظهرت الجوانب السلبية الخفية لهذا الفضاء الرقمي، وبدأت الطبيعة البشرية في التأقلم الاجتماعي مع المتغيرات من حولها، تماماً مثل ما حدث عبر التطور التاريخي للإنسان، ولكن في مدة مختصرة جداً؛ بسبب التراكم المعرفي الذي امتلكه الإنسان المعاصر من جهة، ووجود التقنيات المتقدمة من جهة أخرى.
ولنا الآن أن نتخيل ما يمكن أن يمتلكه الأفراد من قوة كامنة في الأجهزة الرقمية التي تباع في الأسواق كمنتجات للاستخدام العام، إذا ما تم مقارنتها بالقوة التي أوصلت الإنسان إلى القمر! وعلى سبيل المثال، فإن القوة الكامنة في أي هاتف ذكي ذي مواصفات متوسطة ويباع اليوم في الأسواق العامة تعادل آلاف المرات قوة التقنيات التي امتلكتها ناسا حينما نجحت في الوصول إلى القمر.
التأثير في الفضاء الكوني بأدوات الفضاء الرقمي
إن حالة الفوضى التي تعيشها أغلب المجتمعات النامية في وقتنا الحاضر، تعود أسبابها الحقيقية إلى التغير المتسارع الذي تحدثه التقنيات الرقمية الحديثة في بيئة تقليدية غير ناضجة، سواء على المستوى الفكري للأفراد أو المؤسسات المحيطة بهم. لذلك فإن الحياة اليومية الاعتيادية لاتزال غير قادرة على امتصاص القوة الخفية التي تتمتع بها هذه التقنيات أو إيقافها، أو حتى صدها، لأنها لا تزال غير مفهومة المعالم بالنسبة إلى هذه المجتمعات.
ولعل أبلغ مثال على هذا النوع من الخلل المجتمعي في الواقع المعيش ما نراه من أعمال إرهابية يقوم بها أفراد عاديون، يشكلون فيما بينهم جماعات متطرفة، خارجة عن أبجديات المنطق السليم للعقل البشري المتوازن؛ لأنهم امتلكوا قوة خارج نطاق السيطرة؛ بسبب إمكاناتهم الفكرية المتواضعة.
وبسبب القوة الخارقة الكامنة في التقنيات الرقمية الحديثة، فإنه لم تعد هناك حاجة لوجود عنصر الذكاء في عقلية الإرهابيين المنفذين لأعمال العنف والتخريب، ولا في قادتهم الذين يخططون لعملياتهم. وليس أدل على ذلك من سهولة إحباط مخططاتهم لاعتمادها على الأساليب التقليدية في التخطيط، ولكنها تبقى ذكية في التنفيذ؛ بسبب اعتمادها على القوة الرقمية.
أما المستويات المتقدمة من القوة الرقمية فإنها تحولت إلى قوة مؤثرة؛ بسبب القدرات العالية التي تمتلكها الدول العظمى؛ بتسخير مختلف مؤسساتها لتبني التقنيات الحديثة، وتنفيذ أجندتها عن طريق جزء يسير من قوتها التقليدية، في امتزاج عالي المواصفات ينتج عنه ما يعرف بالقوة الذكية. وبدأ استخدام هذه القوة من قبل بعض الدول العظمى في هيئة هجوم غير مرئي، مثل القرصنة الرقمية والفايروسات الإلكترونية، بواسطة البرمجيات الخبيثة، التي لا تمتلك الجدران النارية ولا مكافحة الفايروسات الاعتيادية القادرة على صدها.
ولمعرفة حجم التغيير المتوقع لامتلاك القدرة على استخدام القوة الذكية، فقد أنشأت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) إدارة متخصصة للعلوم والتقنية، تختص في دراسة وتحليل وتطوير كل ما من شأنه التأثير على مستوى القوة الكامنة في التقنيات الرقمية، بالإضافة إلى القدرة على محاكاة الواقع وخلق الواجهات الرقمية المطلوبة لإدارة المهام.
القوة الذكيّة خيار الحاضر وسلاح المستقبل
إن امتلاك دولنا للقوة الذكية يحتاج، بلا شك، إلى تبني إستراتيجية طويلة الأمد تأخذ بعين الاعتبار بأنها السلاح الوحيد القادر على مواجهة الجماعات الإرهابية والتصدي لحروب المستقبل. والإرهاب الذي تمارسه اليوم جماعات ما دون الدول بأساليب مختلفة، فإن كان لازال بالمقدور مواجهته جزئياً، فإنه في المستقبل لن يكون بمثل هذا المستوى من السهولة، ولا سيما إذا كانت أطرافه بعض الدول المتقدمة التي تستخدم من التقنيات ما يساعدها على امتلاك قوة ذكية ذات قدرات عالية جداً، وتهب جزءاً منها للجماعات الإرهابية، كما هو مشاهد في أحداث الشرق الأوسط.
ويجب أن تكون لدى دولنا القناعة التامة بأن القوة التقليدية لن تكون هي الحائط المانع أمام حروب المستقبل، والتي هي بحد ذاتها، أي الحروب، لن يمكن تقسيمها حسب المفاهيم التي تقسم بها الحروب التقليدية. وبسبب احتوائها على عناصر غير نمطية، فإن القوة الذكية تتطلب وجود بنى أساسية لدى الدول، قادرة على خلق القوة الذكية بالمفاهيم المطلوبة من خلال تكامل العديد من المؤسسات والجهات، التي ربما لا توجد بينها علاقة في الفضاء الكوني، ولكنها حتماً مكملة بعضها لبعض في الفضاء الرقمي.
* المدير التنفيذي لمركز دراسات