الرأي

المعارك الفكرية ديمومة بلا انتصار

المعارك الفكرية ديمومة بلا انتصار



بالتأكيد ليس الحديث عن حرب الأفكار بالجديد؛ يقال إن أول من استخدمها الأمريكان في بداية السبعينات ثم تزايد الاهتمام بها بعد أحداث 11 سبتمبر ثم صارت المكون الرئيس لحروبنا العربية الحالية. ولكن دراسة مفهوم حروب الأفكار واستراتيجياتها الحديثة لا تختلف كثيراً عن سابقاتها التاريخية عدا في تأصيل المصطلح وتصنيف الأدوات والاستراتيجيات. وإذا كانت الحروب الاعتيادية تخلف الدمار والأشلاء فإن حروب الأفكار تخلف التشتت واليأس والرغبة في الاعتزال.
يعيش العرب حروب أفكار قديمة أكثرها تأثيراً على مسيرة تاريخهم نواتج حرب الفتنة الكبرى التي انتهت بقتل الحسين بن علي عليه السلام وتمزق العرب إلى مذاهب وفرق شتى. وربما كانت حركات الاستشراق أداة حرب فكرية درست الواقع العربي والأحوال الاقتصادية والاجتماعية والمشكلات السياسية والثقافية فمهدت للحركات الاستعمارية. في هذا الصدد تكون الثقافة والحالة الفكرية هي المدخل والثغرة للاختراق وهي الوسيلة في التأثير والهزيمة.
وحين بدأت أمريكا اختراقها القوي للمجتمعات العربية بعد أحداث 11 سبتمبر متذرعة بمحاربة الإرهاب الذي ضربها في عقر دارها تزامن مع غزوها العسكري غزو ثقافي آخر. تمثل في تأسيس قناة الحرة الفضائية وراديو سوا وزيادة عدد المدارس الأمريكية الخاصة والمراكز الثقافية الأمريكية وزيادة عدد البعثات الدراسية للطلبة العرب إلى أمريكا. ولكن تلك الأدوات لم تنجح النجاح الفاعل. وكانت الأدوات الأنجح هي مراكز الدراسات الاستراتيجية التي يعمل فيها العديد من المفكرين والمثقفين العرب. وأحد أخطر «الأفكار» التي توصلت إليها تلك المراكز هو تأثير «الجنس» في الوعي العربي من حيث التأثير ومن حيث التعذيب. ولذلك نجد أن الكثير من الأعمال الدرامية والقنوات الفضائية والمجلات توجهت نحو ثقافة الجسد للترويج للعديد من الأعمال الفنية والسلع الاستهلاكية. كما لجأت أمريكا في سجن أبوغريب وغيره من السجون العراقية إلى التعذيب الجنسي في انتزاع الاعترافات وفي كسر الذات العربية. وهو الشيء نفسه الذي استخدمه تنظيم «داعش» في بعث ظاهرة السبايا وتوزيع نساء المناطق التي تسقط في يدهم غنائم على مقاتلي داعش أو يتم بيعهن في الأسواق.
ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي زادت ضراوة حروب الأفكار وتأثيرها الحاسم في الكثير من القضايا المصيرية للعرب. إذ حسم إسقاط بعض الأنظمة ضخ الكثير من المعلومات الخاطئة والشائعات التي تبين في ما بعد أن أغلبها كان مفبركاً وأن فكرة الحرية والديمقراطية سقطت في فكرة الفوضى وانتشار القتل والعصابات الإجرامية. ومع اتضاح تلك النتيجة لتأثير «الفكرة/ المعلومة». وتبني أفكار مضادة للأفكار السابقة وظهور معلومات مضادة من مصادرها الذاتية عمت الفوضى الفكرية أكثر من الفوضى السياسية. ووصل الأمر مع سيلان شلالات غزيرة من الدماء في سوريا والعراق وليبيا وغيرها من الدول إلى دخول العرب في حروب جديدة يبرر فيها فريق من العرب ضرورة سيلان الدماء لتحقيق النصر في المعارك على الأرض ويقف الطرف الآخر متهماً الطرف الأول بالعمالة أو تبني الإرهاب أو.. ومن ثم ضاعت القضية الأصلية وعميت الرؤية الأولية لأسباب الصراعات في الوطن العربي وخسرنا الكثير من قضايانا العادلة بسبب المهاترات والمـــزايـــدات لا بســبب ضعــــف الإمكانات.
وقد نتج عن الحرب الفكرية الضروس الدائرة في الوطن العربي شيوع حالة من الإحباط واليأس بسبب الشعور بالجهل الناتج عن كثافة المعلومات وتعارضها وتوازي الأدلة. وبدأ إحساس شائع في التشكيك بصحة بعض القيم والاتجاهات والمواقف وانطلقت دعوات لمراجعة القناعات السابقة في بعض القضايا. وكلها توجهات لا ندري مدى سلامتها أو كيف ستنتهي. وأخطر النتائج وأكثرها سلبية هي الرغبة في الاعتزال التي بدأت تراود الكثيرين. والشعور بالخوف من الاشتراك في الجدل الدائر والتوجه لترك الأمور تجري وفق تحريك المعنيين بها. وهو شعور سلبي يعطل الفعل ويكبح التفكير في وقت تحتاج فيه الأمة العربية والإسلامية إلى شحذ هممها وعصر أفكارها للخروج من المأزق التاريخي الذي تعاني منه اليوم.
حرب الأفكار أخطر من حرب الدماء. وهي الحرب التي مازلنا نخسر فيها لأننا لم ندرسها دراسة واعية ولم نضع الخطط الفكرية بعيدة المدى لمواجهتها.