الرأي

حتى لا تتكرر فضائح المشاريع المقتبسة من الخارج

حتى لا تتكرر فضائح المشاريع المقتبسة من الخارج







سأل الثعلب جملاً واقفاً على الضفة الأخرى من النهر: «إلى أين يصل عمق ماء النهر؟» فأجابه: «إلى الركبة»، فقفز الثعلب في النهر فإذا بالماء يغطيه وهو يسعى جاهداً أن يخرج رأسه من الماء بجهد مضنٍ، وما أن استطاع الوقوف على صخرة في النهر حتى صرخ في وجه الجمل قائلاً: «ألم تقل إن الماء يصل إلى الركبة؟»، رد الجمل: «نعم يصل إلى ركبتي!».
هذه القصة تحمل عبراً سديدة حول مسألة اقتباس تجارب الآخرين عند استشارتهم في أمور الحياة، فكل إنسان قد يمنح نصائح ورؤى حسب خبرته قد تنجح وتنفع معه، وليس معك أنت، كما أن هناك من قد يقدم لك نصائح ومقترحات قد لا تتناسب مع وضعك، وإن طبقتها ستغرقك في نهر الخسارة.. هذا الكلام مرده تبيان الحال الذي وصل في مسألة التخطيط واقتراح مشاريع للنهوض باقتصاد الدولة لتوجد المزيد من التنوع الاقتصادي الذي يبعدنا عن مسألة الاعتماد الكلي على الموارد النفطية.
ليسأل كل واحد منا نفسه، أمام زوبعة مقترح إنشاء ملاعب الكريكيت، كم مشروعاً أقيم في البحرين وبات سبباً في استنزاف أجزاء كبيرة من ميزانية الدولة وليس مصدراً من مصادر إيرادات الدولة الاقتصادية؟ كم مشروعاً تحول إلى واجهة شكلية يكلف الدولة مبالغ فلكية، وفي أحسن الأحوال بات مشروعاً إيراداته تعادل تماماً وبالكامل مصروفاته؟ يعني كأنه مشروع الفائدة الوحيدة منه أن يقول نحن هنا.
في نقاش مع البعض قال أحدهم: «لم يبادر أي صحافي باستعراض إحصائيات وأرقام تعكس الفوائد الاقتصادية والعوائد التي ستأتي من جراء ملاعب الكريكيت، خاصة وأن هناك دولاً خليجية مجاورة طبقت هذا المشروع ونجحت اقتصادياً فيه»، فقلنا له: «طيب إذا الصحافي لم يمتلك هذه الإحصائيات لأي سبب كان، لماذا الجهات الرسمية التي اقترحت هذا المشروع لم تبادر وسط موجة الهجوم على فكرة الكريكيت باستعراض هذه الإحصائيات والأرقام كدفاع عن فكرتها وللإيضاح عن المكتسبات الاقتصادية له؟»، وبالأصل هل هناك دراسة أقيمت فعلاً لمعرفة الجدوى الاقتصادية من هذا المشروع هنا في البحرين لا في تلك الدول الخليجية المجاورة قبل أن تصرف له ميزانية وتخصص أراضي لإنشائه؟
بالأصل؛ هل هناك مراكز أبحاث بالدولة تدرس وتحلل اتجاهات الجماهير الداخلية، أي المواطنين والمقيمين، والجماهير الخارجية؛ أي السياح والزوار، وبالتالي تبني وفق معطيات هذه الدراسات وما ستخرج به من مؤشرات بوصلة مشاريعها الاقتصادية والسياحية والرياضية وغيرها من أمور؟ هل استراتيجية الدولة وخطواتها الاقتصادية وبرنامج عمل الحكومة يأتون بناء على تمحيص دقيق يرصد الاتجاهات العامة والمعطيات في الواقع البحريني؟ كثير من الدول المتقدمة لا تسير بناء على رغبة شخص أو جهة معينة تقترح مشروعاً لأن المسؤول قام بزيارة ميدانية لإحدى الدول وطالع المشروع وأعجبه «ويلا نفذوا».. الدول اليوم تزيد من مراكز أبحاثها التي تأتي بدراسات وفق أسس علمية تبني واقعاً أجمل للدولة في كافة المجالات الاقتصادية والسياحية والرياضية بل حتى الإعلامية.
«ملاعب الكريكيت» قد يكون فعلاً مشروعاً اقتصادياً مربحاً للدول الخليجية التي طبقته وقد لا يكون للبحرين، الضمانة لمعرفة مفتاح النجاح أو الفشل هو دراسة الجدوى الاقتصادية، عوامل مملكة البحرين وأوضاعها الاقتصادية والأمنية مختلفة تماماً عن أي دولة أخرى والعكس صحيح، لا يمكن اليوم أن يأتي مسؤول ويرى تجارب دولة هنا أو هناك ثم يحاول تطبيق أي مشروع والسلام دون دراسته وقراءة الواقع البحريني.
هل يتذكر القراء مشروع مصنع النفايات الذي انفردت صحيفة «الوطن» منذ سنوات بنشر «فضائحه» عندما أراد أحد المسؤولين السابقين تطبيقه في البحرين بعد زيارة قام بها لدولة تطبقه؟ المسؤول السابق هذا لم يكلف نفسه عناء مطالعة تجارب دول أخرى ودراسة المشروع من كافة الجوانب، بل قام بزيارة سريعة إلى مصنع تلك الدولة ثم حاول اقتباسه بالبحرين، حتى جاءت أصوات كشفت الحقيقة عندما ذكرت أن هذا النوع من المصانع له تأثيرات خطيرة جداً على الصحة وأنه اغلق في جميع الدول التي أقامته، حتى تلك الدولة التي قام الوزير بزيارتها، بسبب تأثيراته الخطيرة التي نشرت الأمراض بين الناس هناك، حيث لوثت المياه التي يسكب فيها المصنع نفاياته مما عمل على نشر الأورام والأمراض، أي أنه لولا لطف الله لكان المشروع أقيم ولدمرت البيئة البحرية لدينا ولما استطاع الناس أن يشربوا مياه بعد الآن إلا المياه المستوردة من الخارج.
نقول هذا من باب المصلحة الوطنية؛ هناك حاجة تفرض نفسها اليوم بأن يدرس أي مسؤول يملك منصباً عاماً بالدولة مشاريعه المقترحة بالاستناد إلى دراسات وإحصائيات دقيقة، والأهم أنها تعكس هل واقع البحرين به من العوامل والمعطيات التي من الممكن أن تساهم في إنجاح هذا المشروع الاقتصادي وجعله مصدر دخل للدولة؟ كفانا تخبطاً وكفانا هدراً للميزانية العامة للدولة في مشاريع تكون كفأر تجارب للنجاح أو الفشل ومحل اختبارات، كفانا أن نكون إمعة لتجارب الآخرين التي تغرقنا في بحور الفشل.
لا نريد أن نكون في البحرين كقصة الجمل والثعلب؛ أن نرى أنفسنا نسبح في مأزق نهر الخسائر المتتالية وعندما نهرع للخروج من الغرق الاقتصادي نكتشف حقيقة أن هؤلاء الآخرين عندما اقترحوا أفكارهم فهم أخبرونا من منطلق منظورهم الخاص لا منظور الواقع البحريني.
- إحساس عابر..
تاريخياً مملكة البحرين كانت من الدول القوية اقتصادياً حتى ما قبل مرحلة النفط، حين كانت تستقطب معظم أبناء دول الخليج العربي للعمل فيها، وحينما كانت تتصدر التجارة نظراً لموقعها الجغرافي ومواردها المتعددة، لذا فالمتأمل في الوضع المالي الذي وصلت إليه البحرين اليوم سيستنتج أن المشكلة الرئيسة لا تكمن في مواردها النفطية والطبيعية وغيرها؛ إنما في طريقة إدارة هذه الموارد وكيفية التخطيط في جعلها من مصادر دخل الدولة الأساسية لا مصادر دخل لجيوب من يديرون موازناتها ويتخبطون فيها ويجعلونها فأر تجارب لتخطيطهم الذي قد يكون بعيداً عن بوصلة الإنتاجية والربح.