الرأي

حرب الاستنزاف الباردة

نظــــــرات


حروب الاستنزاف من منظور عسكري تقوم على إضعاف قوة الخصم إلى درجة الانهيار، وهي استراتيجية عسكرية تم تنفيذها في الكثير من الحروب، ولكننا بصدد مفهوم مختلف ومتطور لمثل هذا النوع من الاستراتيجيات العسكرية، كما حدث في العراق وسوريا في التحالف الدولي ضد داعش الإرهابية، والتحالف العربي ضد جماعة الحوثي الإرهابية. بالمقابل نأتي إلى مفهوم الحرب الباردة الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، والذي ظهر كحالة من الصراع الوسيط بين عدة أطراف وليس فيه حرب فعلية ولا حالة سلم فعلية لوصف العلاقات السائدة في النظام الدولي ثنائي القطبية آنذاك بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ومعسكرهما.
بدمج هذين المفهومين "حرب الاستنزاف والحرب الباردة" يمكن وصف الصراع الدائر في الشرق الأوسط بأنه مزيج من حرب الاستنزاف والحرب الباردة بين مجموعة من الأطراف الإقليمية والدولية.
هناك محوران للصراع في الشرق الأوسط اليوم؛ الأول على مستوى دولي بين الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، والمحور الثاني على مستوى إقليمي بين السعودية وإيران، وكل من الأخيرين له مجموعة من الحلفاء والشركاء.
نتحدث بالتحليل هنا حول المستوى الثاني من محور الصراع في المنطقة، وهو الصراع القائم بين السعودية التي لديها نفوذ هائل بين الدول العربية تشمل دول منظومة مجلس التعاون الخليجي، وكلاً من مصر والأردن والمغرب من جهة، وإيران وحلفائها من النظام الحاكم في العراق وسوريا بالإضافة إلى حزب الله الإرهابي في لبنان.
هذا الصراع أيديولوجي بالدرجة الأولى وقائم على التصادم بين الأيديولوجيات المتعارضة، واللافت فيه أنه لا يقوم على مواجهات مباشرة بين أطراف الصراع، بل يقوم على المواجهات غير المباشرة، حيث تتم المواجهة على أراضٍ أخرى غير أراضي أطراف الصراع، ويمكن متابعة ذلك بوضوح في الصراعات القائمة في العراق وسوريا وأخيراً اليمن.
ورغم هذا الصراع المعقد، إلا أن أطراف الصراع محافظة على علاقاتها البينية، ومع المواجهات المباشرة، فإن العلاقات الدبلوماسية مازالت قائمة، والتبادل التجاري مازال مستمراً، ولا يبدو أن هناك توجهاً لإيقاف هذا النوع من العلاقات.
هذا المزيج الفريد من الصراع من منظور العلاقات الدولية يكشف لنا نمطاً مختلفاً من الصراعات الإقليمية الذي قد تختلف فيه عوامل الحسم عن تلك العوامل التي تحدد كيفية إنهاء الحروب التقليدية، أو حتى الحروب الباردة التي شهدها النظام الدولي في تاريخه الحديث.
ولكن من الواضح أن عناصر القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية تميل أكثر لصالح التحالف العربي الذي يواجه طهران الآن بقيادة الرياض، ويواجه طموحاتها الأيديولوجية بالتوسع في شبه الجزيرة العربية، ولا يبدو أن إيران لديها القدرة والاستعداد لخوض مغامرة عسكرية جديدة في بؤرة جغرافية جديدة في الشرق الأوسط مع تعدد جبهات المواجهة غير المباشرة، خاصة وأن الظروف الاقتصادية الدولية غير مواتية لتنفيذ مثل هذا النوع من المغامرات، والخسارة فيها ستكون فادحة أكثر مما يتصور ثيوقراطيو طهران.
حرب الاستنزاف البادرة حالة فريدة يشهدها النظام الدولي في الشرق الأوسط تحديداً، ومن خلالها سيتحدد مستقبل المنطقة الغامض حالياً.