الرأي

حتى تونس ما عادت بمأمن!

حتى تونس ما عادت بمأمن!


قلة يشككون في حقيقة أن تونس خرجت من تداعيات «ربيعها» بالحد الأدنى من الآلام، غير أن أحداث متحف باردو المؤسفة تذكرنا بأن الدول تظل رهائن لموقعها الجغرافي وبيئتها الثقافية - الاجتماعية. وبما أن تونس ليست جزيرة، وكونها دولة مسلمة في فترة مرور الإسلام السياسي بتجربة قاسية، فإنها تظل مهددة بالاضطراب والقلاقل مهما كانت حصانتها قوية، ومؤسساتها متماسكة، وثقافتها السياسية متسامحة ومنفتحة.
أما الفارق الأساسي بين ما تعيشه تونس وما تعاني منه كيانات المشرق العربي المريضة فهو أننا مع الأولى نتعامل مع دولة ما زالت «دولة»، أي كحال بريطانيا خلال عقد الستينات والسبعينات رغم متاعب إقليم آيرلندا الشمالية وحال إسبانيا مع أزمة الانفصاليين الباسك. في حين أن ما نراه في المشرق العربي - في الهلال الخصيب شمالاً واليمن جنوباً - هو السقوط الفعلي لمفهوم «الدولة»، ناهيك من حدودها المتهافتة المتبخرة!
هذا يعني أن لدى السلطة في تونس، بكل مكوناتها السياسية الكبرى، أفضلية القدرة على التعامل الأمني بصورة مباشرة وفعالة مستندة إلى شبه إجماع وطني عريض يشكل الخلفية الضرورية للتصدي للتطرف العابر للحدود والإرهاب المتفلت من المنطق. وهو واقع يختلف جوهرياً عما يشوب «الحرب ضد الإرهاب» التي تخاض اليوم دولياً في سوريا والعراق واليمن، حيث بالكاد يمكن تمييز إرهاب الميليشيات المحسوبة على الأنظمة وقوى «الأمر الواقع» المذهبية من جهة، والجماعات المتطرفة والتكفيرية من جهة ثانية.
ولقد أعلنت «حركة النهضة»، أبرز القوى الإسلامية الرئيسة في تونس، استنكارها ما ارتكب من فظاعة في حي باردو. وواضح أن «النهضة» بحكم تجربتها الطويلة في المعارضة، ثم القصيرة في الحكم، تتفهم الواقع الذي تتحرك فيه، ربما أكثر من أي قوة من قوى الإسلام السياسي في العالم العربي. ومن ثم، فهي تستشعر مخاطر أن ينظر إليها في مجتمع حي وواعٍ كالمجتمع التونسي على أنها - ولو بالرغم منها - «الحاضنة الفعلية» لكل التيارات الإسلامية... بما فيها الجماعات المتطرفة والعنفية المرتبطة بـ«القاعدة» وأمثالها.
مع هذا، يلاحظ أن بعض الإعلام العربي، وكل الإعلام الرسمي الإيراني طبعاً، يتعمد ربط الحكم الإسلامي القائم في تركيا مباشرة بكل شراذم التطرف والتكفير في تونس، وأيضاً في ليبيا. وبغض النظر عما إذا كانت هناك حقاً جماعات في تيارات الإسلام السياسي التركي تتمنى قيام «منظومة» أنظمة إسلامية في المشرق العربي وشمال إفريقيا، فإن الذهاب إلى حد القول إن حكام تركيا - التي ما زالت حتى اللحظة جزءاً في حلف شمال الأطلسي (ناتو) - متورطون بدعم تنظيمات كـ«داعش» و«القاعدة» وأمثالهما... كلام بعيد عن المنطق، كي لا يقال شيء آخر.
والشيء الأكيد أن العراق وسوريا واليمن وليبيا، كيانات أسهم الطغيان والتعصب الطائفي العرقي في تدمير مؤسساتها السياسية وتمزيق نسيجها الاجتماعي. وبعدما عاش بعض هذه الكيانات فترات ازدهار وتقدم اقتصادي وثقافي في أجواء من التسامح الفئوي، أضعف التعصب الإقصائي - الإلغائي فرص المحافظة على بنية الدولة المدنية. وبالتالي، بتنا اليوم أمام الواقع التالي:
- تقلص «السلطة» إلى فريق داخل الوطن بدلاً من أن تكون المظلة الجامعة لكل مكونات الوطن، والقوة المعبرة عن طموحاته، والحامية لمصالحه.
- تحول «الجيش الوطني» إلى ميليشيا مذهبية أو عرقية أو قبلية أو جهوية، ما أسهم في نشوء حواضن يأوي إليها كل ساخط ومحبط.
- سقوط الحدود الوطنية في غياب «السلطة» و«الجيش» أمام من هب ودب من الجماعات المسلحة المختلفة الولاءات والهويات والأهداف، التي تتحرك وفق جداول أعمال لا علاقة لها بظلامات السكان المحليين ومطالبهم.
- إشراع أبواب الكيانات المتداعية أمام تدخلات قوى إقليمية لديها مشاريع هيمنة وأحلام إمبراطورية وأحقاد تاريخية عميقة.. وأتباع يأتمرون بأوامرها ضد شركائهم في الوطن.
- جعل المنطقة العربية برمتها «ساحة مواجهة» تصفى فيها حسابات دولية كبرى وتعقد الصفقات فوق رؤوس مواطنيها وإراداتهم، على حساب السلام والتنمية والرخاء والإعداد للمستقبل.
اليوم يستحيل في العراق، مثلاً، فرض حل أمني لا يعالج البعد السياسي الخطير الذي يتيح للجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني»، القيام بجولات وصفت بـ«التفقدية» لقواته في جبهة تكريت.
كذلك لا يمكن نجاح أي حل في سوريا إذا ما اقتصر على كونه ترتيباً أمنياً هدفه الأوحد ضرب «داعش» وأمثاله... مع بقاء النظام الذي كانت تجاوزاته وتحالفاته المحفز الأساسي لدخولها وتمددها داخل البلاد.
وبطبيعة الحال، لا جدوى من أي محاولة للجم عنف اليمن إذا ما تبنى المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، الحوثيين التابعين لمشروع طهران الإقليمي... جيشاً حليفاً يشاركه في قتال «القاعدة».
هذه الفخاخ السياسية التي تتعمد إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تجاهلها لدى تناولها ملفات الشرق الأوسط الشائكة، والتي أدت أخيراً إلى نكسة فظيعة لها حتى في الانتخابات الإسرائيلية، غائبة - حتى الآن على الأقل - عن المشهد التونسي.
في تونس لا حالات انفصالية تهدد وحدة البلاد، ولا غبن طائفي أو ديني أو عرقي مزمن، ولا رغبة أو قدرة عند أي فريق سياسي أو جهوي باحتكار الحكم. بل تتميز الثقافة الشعبية التونسية برؤية عقلانية وواقعية تعرف، خصوصاً، كيف تتعلم من أخطاء الآخرين، وكفى التونسيين واعظاً ومنبهاً المثال الليبي.
ولكن، في المقابل، فإن أعداد المقاتلين التونسيين في سوريا والعراق (أكثر من ثلاثة آلاف وفق تقديرات وزارة الخارجية التونسية) عالية بما فيه الكفاية لتأكيد الحاجة إلى تطوير استراتيجية متكاملة وناجعة لمكافحة الإرهاب والتطرف.
ولئن أخذنا في الاعتبار جريمتي اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وبؤرة جبل الشعانبي الملتهبة، وأخيراً عملية متحف باردو، يتبين أنه لا الداخل التونسي محصن ولا الحدود مع ليبيا والجزائر مأمونة.
إزاء خطر الإرهاب، الحذر والتحرك السريع مطلوبان حتى في بلد متماسك مثل تونس.
* عن صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية