الرأي

جهّز ممحاتك

بنادر











لا أنت ولا أنا ولا الآخر يستطيع أن يواصل الحياة إذا عاش في حالة مستمرة من الشكوى والتذمر والعتاب، يرد على أي كلام، حتى ولو كان هذا الكلام موجهاً بشكل ساخر، لا علاقة لك به، فهذا النوع من الناس لا يعرف أن يتقبل أي شيء يصدر من غيره، حتى أقرب المقربين إليه، حتى من أبيه أو أمه أو أحد إخوانه أو أخواته.
هذا النمط من البشر دائماً يحمل أحجاراً ليرمي بها كل من يختلف معه في الرأي أو الموقف أو الرؤية، ولذلك تراه يشتم الفصول الأربعة، لا يعجبه الصيف ولا الشتاء ولا يعجبه الخريف، حتى يرى في الربيع عيوباً فيرمي أحجاره عليه بحجة أن الربيع لم يأت كما أراده أو تصوره.
وصلتني قصة في منتهى الحكمة ومنتهى البلاغة الحياتية التي يحتاجها كل إنسان لكي يستمر في حياته ويشعر بالسعادة.
تقول القصة.. عندما تزوج هذا الصديق ذهب إليه أبوه يبارك له في بيته، وعندما جلس إليه طلب منه أن يحضر ورقة وقلماً وممحاة، فقال الشاب: لمَ يا أبي؟
قال: أحضرها..
أحضر الشاب القلم والورقة ولم يجد ممحاة، فقال له أبوه: إذاً انزل واشتر ممحاة.
مع استغراب شديد نزل الشاب إلى السوق وأحضر الممحاة وجلس بجوار أبيه، الأب: اكتب.
الشاب: ماذا أكتب؟
الأب: اكتب ما شئت.
كتب الشاب جملة، فقال له أبوه: امحها، فمحاها الشاب.
الأب: اكتب.
الشاب: بربك ماذا تريد يا أبي؟
قال له: اكتب.
فكتب الشاب، قال له: امح، فمحاها.
قال له: اكتب.
فقال الشاب: أسألك بالله أن تقول لي يا أبي لم هذا؟
قال له: اكتب، فكتب الشاب.
قال له: امح.. فمحاها.
ثم نظر إليه أبوه وسأله: هل مازالت الورقة بيضاء؟
قال الشاب: نعم ولكن ما الأمر؟
ضرب على كتفه وقال: الزواج يا بني يحتاج إلى ممحاة، إذا لم تحمل في زواجك، ممحاة تمحو بها بعض المواقف التي لا تسرك من زوجتك، وزوجتك إذا لم تحمل معها ممحاة تمحو بها بعض المواقف التي لا تسرها منك، فإن صفحة الزواج ستمتلئ سواداً في عدة أيام.
إن ما ينطبق على حكمة الزواج ينطبق على كل شيء في حياتك الممتدة بين ظلمتين، ظلمة الرحم وظلمة القبر، فأنت من أجل أن تتعلم معنى وجودك بين الظلمتين، لابد لك وأن تمر بالكثير من الظروف التي تحتاج منك الصبر، تحتاج منك لأن ترى الأشياء بعين قلبك، لا يعينك العادية، لأنك عينك العادية لا ترى إلا ما ينعكس فيها من إضاءات الخارج، أما عين القلب فهي تحدق في غير المرئي، سواء لك أو الآخرين.
ونحن نلاحظ أن أي إنسان يقول لمن يتكلم معه حول قضية ما؛ ألا تذكر قبل خمسين سنة أنك فعلت كيت وكيت. تصور إنساناً يحمل في قلبه جرحاً من خمسين سنة ولا يرضى أن يتركه أو يتخلص منه.
إن البياض المقصود هنا، هو بياض قلبك، وبياض سريرتك، وبياض حياتك، لإن كان تحاملت على غيرك.
من هنا أقول دائماً لنفسي، عن أي حدث مر قبل عدة دقائق أنه صار من الماضي، اشطبه الآن، اشطبه، فهو غير موجود سوى في ذاكرتك، دع ذاكرتك بيضاء نظيفة ليدخلها الأجمل والأفضل والأروع. إذا امتلأت بالقديم لن تكون هناك مساحة لاستقبال الجديد الموجود دائماً في الحياة والمحمول في ذرة الهواء الذي تتنفس.
جهز ممحاتك وامح كل ما كتبت أو رسمت، وافتح خيالك على الجمال، فالله جميل يحب الجمال. إن لم تكن لديك، انزل واشتر ممحاة من أقرب دكان لبيتك.. وامح، اشطب، دليت، لكل ما لا يحمل أي خير.