الرأي

قميص بحجم الكون

بنادر


قبل أن أعي ما يدور حولي، ربما في العام الرابع من عمري، كانت قصة النبي يوسف عليه الصلاة والسلام، والتي تحكيها أمي، بصورة أراها أمامي واضحة، متحركة، نشطة، كأي عمل درامي تلفزيوني أو سينمائي، من القصص التي سكنت القلب وظلت مشتعلة في مواقد الذاكرة، كنت أراه كما أراها الآن، قميصاً بحجم الكون، وبالذات حينما رماه إخوته في الجب، وقد شاهدت بالفعل القميص الممزق، وكيف أنقذ منه وكيف بيع إلى عزيز مصر وكيف تحولت حياته من عبد إلى وزير، عمل على توزيع القمح إلى كل سكان مصر ومن يتبعها.
ولأني عشت تجربة السجن ومررت بشيء بسيط مما مر به النبي يوسف، كتبت تجربة (رؤيا الفتوح) التي تتحدث عن كيفية الصعود على كل الظروف المحيطة بالإنسان وتحويلها من حالة سلبية إلى حالة إيجابية، بمعنى تحويل كل ما هو ضدك لصالحك، وتحويل ليلك الذي تحياه إلى نهار داخلي لا يستطيع أحد أن يأخذ منه أية قطرة ضوء.
وقد قرأت قبل عدة أيام كلمات دخلت قلبي واستقرت فيه، كما هي عادة الكلمات الكونية التي لا بد وأن تؤثر في مسارات حياتك وتعمل على تنظيف ما علق فيها من غبار الظروف السيئة، هذا المقال جاء تحت عنوان «علمني قميص يوسف»، يقول فيها من نقلها إلى صفحة الإنترنت؛ علمني قميص يوسف أن أنزع اليأس من قلبي مهما بلغت بي حالة البؤس، ففي الغيب أسرار عجيبة.
علمني قميص يوسف أنه قد لا يكون أعداؤك في وطن آخر، فقد يكونوا ممن يقاسمونك رغيفك وأنت لا تدري.
علمني قميص يوسف أن المظلوم منصور ولو كان صغيراً لا يدرك، أو مكلوماً لا يفصح، أو غافلاً لا يعي، أو عاجزاً لا ينتصر.
علمني قميص يوسف مهما تهيأت لك ظروف المعصية، وأي معصية كانت، استحضر خوفك من الله وردد «معاذ الله».
علمني قميص يوسف أن يوسف التمس العذر لإخوته رغم ما فعلوا به، ونحن لا نعذر أحداً ولو لأتفه الأسباب.
علمني قميص يوسف أن ريح الأحبة لا تخطئها القلوب، «قال أبوهم إنّي لأجد ريح يوسف».
علمني قميص يوسف لا نستطيع دائماً حماية من نحب، ولكننا نستطيع تسخير دعائنا لهم بأن يحفظهم الله من كل شر.
علمني قميص يوسف أن الله معك ومعي ومع من يستشعر وجوده ونصره، وله هبات ومبشرات يرسلها تارة لتثبت وتارة اختبار لك وتارة محبة منه لك.
علمني قميص يوسف أن الفراق لا يطاق، وأن أسعد ساعات المحبين ساعات اللقاء، حين الفراق ابيضت عينا يعقوب وحين وجد ريح من يحب ارتد إليه بصره.
علمني قميص يوسف أن الستر مطلوب، فلم يفضح المرأة التي تربى في بيتها وقال: «ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة»، ولم يقل ما بال فلانة؟!
علمني قميص يوسف أن رحمة الله وسعت كل شيء، وأن للصبر مذاقاً سيئاً ولكن نتائجه جميلة.
علمني قميص يوسف أن إظهار المواهب والامتيازات بين الأقران سبب للتنافر والبغضاء، فخير ما تعمل ألا (لا تقصص رؤياك على إخوتك). في الواقع إني اعتبرت ألا تقص رؤياك على أحد هي المقدمة التي لا بد أن تكون لكتاب الرؤيا، والتي رأيت فيها ما لم أكن أستطيع أن أراه بالعقل الواعي، رأيت الأيام تتحرك أمامي كما أريد لها أن تتحرك، رأيت الأحلام تأتي من كل الجهات مبتهجة كالأطفال الخارجين من سجن الحضانة. حتى الآن، بعد أن تقاعدت من العمل لأبدأ الدخول بصورة أعمق في مجاهيل، وأذهب راغباً لكل ما هو خير وبركة وفرح وانشراح، مازلت أعود إلى عمر الرابعة من عمري لأسمع قصص أمي عن يوسف وزليخا.