الرأي

الطفولة صوت البر

بنادر



دائماً ما أكرر مقولة أن ما تقوم به من شر أو من سوء يعود عليك أضعافاً مضاعفة، ليس في يوم القيامة إنما في حياتك وقبل مغادرتك الدنيا، فإن أسأت إلى أمك أو أبيك أو أخيك أو أي إنسان على وجه الأرض، تأكد أن هذه الإساءة لن تمحى إلا بالعمل الخيري الجاد والمضني، من أجل تحويل الشر إلى ما يشبه الخير، وفي الواقع فقد عرفت الكثير من القصص الواقعية التي أثبتت صحة هذه المقولة، وقد عرفت أشخاصاً قريبين مني مروا بنفس الإساءة التي أساؤوا فيها إلى آبائهم أو أمهاتهم أو أقاربهم أو لأشخاص لا يعرفونهم؛ فهناك من أخذ حق أخيه الأصغر وإخوته في الإرث، فعاد المال المسروق ليتحول إلى نار تنهش في عظم هذا الإنسان الذي أخذ مال إخوته.
قبل عدة أيام وصلتني إحدى القصص الواقعية التي تقول.. جلست الأم ذات مساء تساعد أبناءها في مراجعة دروسهم، وأعطت طفلها الصغير البالغ الرابعة من عمره كراسة للرسم حتى لا يشغلها عما تقوم به من شرح ومذاكرة لإخوته الباقين.
وتذكرت فجأة أنها لم تحضر طعام العشاء لوالد زوجها الشيخ المسن الذي يعيش معهم في حجرة خارج المبنى في ساحة البيت، وكانت تقوم بخدمته ما أمكنها، ذلك والزوج راض بما تؤديه من خدمه لوالده والذي كان لا يترك غرفته لضعف صحته.
أسرعت بالطعام إليه، وسألته إن كان بحاجة لأي خدمات أخرى ثم انصرفت عنه.
عندما عادت إلى ما كانت عليه مع أبنائها، لاحظت أن الطفل يقوم برسم دوائر ومربعات ويضع فيها رموزاً، فسألته: «ما الذي ترسمه يالحبيب؟»،
أجابها بكل براءة: «إني أرسم بيتي الذي سأعيش فيه عندما أكبر وأتزوج».
أسعدها رده، فقالت: «وأين ستنام؟».
فأخذ الطفل يريها كل مربع ويقول هذه غرفة النوم وهذا المطبخ وهذه غرفة لاستقبال الضيوف، وأخذ يعدد كل ما يعرفه من غرف البيت، وترك مربعاً منعزلاً خارج الإطار الذي رسمه ويضم جميع الغرف.
فعجبت وقالت له: ولماذا هذه الغرفة خارج البيت منعزلة عن باقي الغرف؟
أجاب: إنها لك سأضعك فيها تعيشين كما يعيش جدي الكبير.
صعقت الأم لما قاله وليدها، هل سأكون وحيدة خارج البيت في الساحة دون أن أتمتع بالحديث مع ابني وأطفاله وآنس بكلامهم ومرحهم ولعبهم عندما أعجز عن الحركة؟ ومن سأكلم حينها؟ وهل سأقضي ما بقي من عمري وحيدة بين أربعة جدران دون أن أسمع لباقي أفراد أسرتي صوتاً؟
أسرعت بمناداة الخدم، ونقلت وبسرعة أثاث الغرفة المخصصة لاستقبال الضيوف والتي عادة ما تكون أجمل الغرف وأكثرها صدارة في الموقع، وأحضرت سرير عمها «والد زوجها» ونقلت الأثاث المخصص للضيوف إلى غرفته خارجاً في الساحة.
وما أن عاد الزوج من الخارج تفاجأ بما رأى وعجب له، فسألها ما الداعي لهذا التغيير؟
أجابته والدموع تترقرق في عينيها؛ إني أختار أجمل الغرف التي سنعيش بها أنا وأنت إذا أعطانا الله عمراً وعجزنا عن الحركة وليبق الضيوف في غرفة الساحة.
ففهم الزوج ما قصدته وأثنى عليها لما فعلته لوالده الذي كان ينظر إليهم ويبتسم بعين راضية.
إن هذا الطفل الذي رأى بعينيه كيف يعامل الجد، تصور أن والديه سيمران بنفس الحالة التي يعيشها الجد الآن، حالة عدم احترام أبوته وآدميته، فنقلها إلى والدته.
إن الأطفال لا يكذبون حينما يتركون على فطرتهم، كذب الأطفال يأتي من خلال كذب الوالدين، اللذين يقولان كن صادقاً، وحينما يقول الصدق يضرب، مما يقوده مستقبلاً إلى الكذب، حتى لا يمر بنفس الضرب الذي عاناه من قبل.
إذا أردت أن ترى مستقبلك الآن ما عليك إلا أن تطلق العنان لأفكار طفلك الذي لم يتعلم الكذب بعد، سيقول لك ما لم تكن تعرفه من قبل، افعل ذلك وسترى نتيجة برك بوالديك، بأهلك، بأصحابك، بالمجتمع الذي تحيا فيه.