الرأي

الجزيرة.. وما بعدها (5)

ورق أبيض


عملت الدوحة، وبسرعة، على نقل معاركها السياسية والإعلامية إلى خارج الحدود تفادياً لأي صدامات مع محيطها الخليجي، فقامت خلال أشهر بتأسيس شركة إعلامية تحت اسم «فضاءات ميديا» في لندن، والتي استحوذت على 51% من شركة (iHorizons) القطرية المتخصصة في مجال إدارة المحتويات الإلكترونية، حيث تقول مصادر إعلامية إن مؤسس «فضاءات ميديا» هو القيادي في تنظيم الإخوان المسلمين والناطق باسم التنظيم في أوروبا، إبراهيم منير، ويرأس مجلس إدارتها الدكتور عزمي بشارة.
وجود منير وبشارة على رأس الشركة الوليدة، وهما من خلفيات سياسية وأيديولوجية متبايتة، يشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن هناك «طباخ» استطاع أن يصنع هذه التوليفة الجديدة، وأن في يده وحده ستكون خطوط اللعبة القادمة، وأنه وحده من سيصنع السياسة الإعلامية للوليد الجديد.
بنظرة سريعة على الموقع الإلكتروني لـ «العربي الجديد» يظهر جلياً نفس الجزيرة وسياسة الدوحة، فهما القادرتان على خلق مزيج من القوميين واليساريين والإسلاميين، ومحاولة إخفاء التباين بينهما، لكن تلك القدرة كانت أقل بكثير لإخفاء التأييد الكبير لجماعة الإخوان المسلمين، والعداء الأكبر لدول المنظومة الخليجية ومصر، وذلك من خلال الكم الهائل للمقالات والتحليلات الواضحة التوجه، عدا عن التوجيه الفج للأخبار.
أهم وأخطر ما يواجه المشروع الوليد هو اختلاف الظرف السياسي والتاريخي في المنطقة مقارنة بالمرحلة التي واكبت إطلاق قناة الجزيرة، حيث تفجرت الثورة التكنولوجية والمعلوماتية وازدحم الفضاء الإعلامي العربي بالعديد من أبواب التواصل الجماهيري، مما يشكل تحدياً حقيقياً لإدارة المؤسسة الوليدة في القدرة على الانتشار واكتساب مساحات أوسع من المتابعة .
ولعل التحدي الأهم والأكبر يكمن في قدرة المشروع على التخلص، ولو نسبياً، من تبعيتها لسياسة الدوحة، إضافة لقدرتها على أن لا تكون صدى لصوت جماعات الإسلام السياسي والتي تراجعت شعبيتها بشكل كبير سعياً لإقناع الجمهور أنها صوتٌ يتمتع بقدر من الحياد.
حتى هذه اللحظة من الواضح أن المشروع الوليد لم يستطع النجاح في كلا الأمرين، فالمتابع لما يصدر عنها خلال هذه الفترة القصيرة من عمر العمل يرى بوضوح أشباح الجزيرة وسياستها التحريرية ونفسها الإعلامي معشعشة في ثنايا المشروع، مما يصعب معه إقناع المواطن العربي الذي نما وعيه بشكل يسمح له بتميز المقدم أمامه غثاً أو سميناً والقدرة على قراءة ما بين الأسطر، إضافة إلى أنه أصبح رأياً عاماً شكاكاً لا يتوقف عن طرح الأسئلة والبحث عن إجابات دون الاقتناع بالتبريرات المعلبة والجاهزة، مؤمناً في أغلب الأوقات بـ «نظرية المؤامرة» بعد كل ما تعرض له من تدليس وخداع يرى أن الجزيرة وغيرها جزء منه.
قد يكون أكبر الأخطاء المهددة بوأد المشروع في مهده إصرار الدوحة على استخدام نفس الأسماء والشخصيات التي كانت في المراحل السابقة أهم نجوم الجزيرة خاصة والسياسة القطرية عامة، وقبول تلك الشخصيات بما تتميز به من نرجسية لهذا الدور المحكوم عليه سلفاً، وكنوع من أنواع التعويض عما أصاب تاريخهم المهني، فالدكتور عزمي بشارة والصحفيان وائل قنديل وأمجد ناصر لا يعدون أكثر من مجرد أدوات، مثلهم مثل الدوحة، لتنفيذ المشروع الدولي الكبير في المنطقة.
وأياً كان ما ستصل إليه التفاهمات الخليجية مع الدوحة؛ فمخطئ من يظن أنها ستتخلى عن تنفيذ دورها في المشروع الشرق أوسطي، بغض النظر عن الوسائل والأسماء والجماعات والشعارات التي ستستخدمها للتنفيذ، لذا فالمطلوب من العين الخليجية أن تبقى مفتوحة وأن لا تركن للوعود القطرية و»حب الخشوم»، التي لن تكون بالنسبة للدوحة إلا استراحة إجبارية لمحارب تعود على المراوغة.