الرأي

فرعون في الدوام «2»

فرعون في الدوام «2»







أحد أفراد العائلة المالكة في مملكتنا الحبيبة، رغم ما يشغله من مناصب هامة، لم يمنعه ذلك من المرور على مكاتب الموظفين وحده بكل بساطة وتواضع قبل أن يتجه إلى مكتبه، وهي عادة يفعلها بين فترة وأخرى، مد يده إلى الموظفة الجديدة مرحباً بها وسحب الكرسي البسيط القريب من مكتبها وجلس بجانبها يسألها عن أحوالها وأمورها هي وزملائها بسؤال «شلونكم.. إن شاء الله مرتاحين؟».
رغم الفترة البسيطة التي شهدتها معه ثم انتقاله إلى منصب آخر استغربت تواضعه الشديد وقبوله للجلوس على ذلك الكرسي الذي لا يليق بمقامه، كما لفت انتباهها أن وجهه غير صارم، بل تزينه بسمة وبشاشة وهو يمر على الموظفين، ليس كمثل كل المسؤولين الذين صادفت بعضهم في حياتها، حيث يعتقدون أن التكشير وعدم التبسم للموظفين بكل طيب نوع من البرستيج والبرتوكول الذي يوجد مسافة بينهم وبين الموظفين ويجبرهم على احترامهم، لاحظت أنه عندما ترك المكان الكل تأثر وحزن، كما لاحظت أن معظم الموظفين يزينون مكاتبهم بصوره وهو جالس بينهم بكل تواضع، اكتشفت من كلام الموظفين أنه يقوم بالمرور المفاجئ عليهم كل فترة لهدف سري لم يعرفه إلا الموظفون الذين استدعاهم إلى المكتب بعد انتهاء وقت الدوام، حيث كان يتميز «بالنباهة والفراسة»، فكان يتعمد المرور على الموظفين لقراءة وجوههم وتفرسها، وعندما يلاحظ أن أحد الموظفين في نفسه شيء وليس على طبيعته يستدعيه بعد انتهاء الدوام بشكل سري ويسأله عما به وإن كان بإمكانه مساعدته.
على النقيض تماماً تذكرت أحد المسؤولين الذين عين في منصب رفيع المستوى، وما إن استلم منصبه حتى «شاف نفسه وايد» وأخذ يضع الحواجز بينه وبين من كانوا رفقاء دربه وزملاء رحلته المهنية، ولا يسمح لأحد برؤيته أو الاقتراب من مكتبه إلا بمواعيد قد تزيد عن أسبوعين، وقد جعل له مخرجاً لوحده حتى لا يصادف في مروره أياً من الموظفين الذين دائماً ما يستعرض أمامهم عضلاته الكلامية وتهديداته أمامهم بجمل تبدأ بـ«أنا.. وأنا»، كما أخذ يمجد نفسه ويقدسها بأنواع متعددة من المظاهر المبالغ فيها، لدرجة أن الموظفين في تلك المؤسسة ما إن يخرج في إجازة حتى يقوموا بطريقة تشبه الاحتفال بعمل «ريوق صباحي شبه يومي وتمرير أطباق الحلويات والطعام بين مكاتبهم»، وكأنهم «ما ناقص إلا يسوون ألعاب نارية».
منذ أكثر من سنة تورط أحد المسؤولين في قضية، لم أعرف موظفاً بإدارته أو تعامل معه بشكل بسيط لم يراسل القائمين على حملة الدفاع عنه لذكر موقف يشهد من خلاله بأنه مسؤول طيب وأن هناك من يحاول الكيد به، من أصغر موظف إلى أكبرهم بدأوا متأثرين بقضيته وأخذوا يحاولون جاهدين القيام بأي شيء لدحض الأقاويل المسيئة عنه، أحدهم يقول «كان يفترش الأرض معنا ويأكل من نفس أطباقنا رغم الفرق الوظيفي الكبير بينه وبيننا، ورغم أننا من عائلات بسيطة وهو ابن عائلة مرموقة وعريقة النسب»، بل كان يعارض كثيراً من المسؤولين الآخرين الذين كانوا ينتقدونه على تواضعه الشديد وتعامله البسيط الخالي من التكلف مع صغار الموظفين، عرفنا لاحقاً أن أحد أهم مبادئه في الحياة التي أوجدت له كل هؤلاء الناس الذين يحبونه ولا يرضون عنه هو مبدأ «في العمل لا فرق بين صغير ولا كبير».
تذكرت يومها جملة قيلت لنا مراراً ويرددها الحكماء من الكبار «اللي شايفين خير دائماً ما يكونون متواضعين، أما المنقوصين والذين لا يمتلكون ثقة بالنفس فدائماً عندما يصل أحدهم إلى منصب ما أو مكان حتى يغتر بنفسه وتبدأ عقده النفسية بالظهور أمام الآخرين»، لاحظوا الفرق الكبير عندما يصل مسؤول جاء من بيئة خير وطيب إلى منصب ما بالدولة ومسؤول آخر لم يرَ في حياته «أي خير»، هنا يبدأ بالتجبر والظلم والتفرعن على الموظفين الذين يعملون تحته، ولا يرتاح إلا وهو يراهم مقهورين لا حول ولا قوة لهم إلا بالله من جراء تصرفاته وظلمه.
هناك مسؤولون للأسف في الدولة يحتاجون قبل منح المنصب لهم إخضاعهم لجلسات إجبارية مع طبيب نفسي حتى ينهي ما بداخلهم من عقد النقص، قبل أن يوضعوا على تلك الكراسي التي يجدونها أداة لظلم الآخرين وتفريغ ما بأنفسهم من عقد على الموظفين، حيث لا يرتاحون إلا بكسرهم وقهرهم ظلماً، فتجدونهم طيلة الوقت مشغولون لا بالعمل بل بعمل وجاهة وتأسيس بطانة فساد تمجده وتدعم ظلمه.
هؤلاء المسؤولون مأساة ووصمة عار في جبين العمل المؤسساتي بالدولة، لأنهم كما فرعون عندما أخبر الله عنه في سورة يونس (وإن فرعون لعال في الأرض)، أي جبار عنيد مشتغل بغير الحق، ورغم دعوته مراراً لاتباع الحق إلا أنه ظل يكابر ويستمر في الباطل وعلى تمرده وظلمه ومعاندته، وهؤلاء لا يظلمون الناس فقط بل ظلمهم يطال الوطن كذلك، لأنهم يعرقلون مسيرة تنميته ويكونون كحجر عثرة في طريق تقدمه.
- إحساس عابر..
في مجال العمل هناك نوعان من الظلم، هناك ظلم مؤقت كنقل تعسفي أو تعطيل ترقيات أو حوافز وما شابه، وهذا الظلم قد ينتهي بعد فترة ويركن إلى النسيان. وهناك ظلم كما الصدقة الجارية، كتضييع حق موظف في أمور تخص مستقبله الوظيفي والأمن الوظيفي، وهذا النوع من الظلم كما كرة الثلج التي تكبر مع تدحرج الأيام والسنين وتؤدي إلى نتائج أكبر تزيد من تفاقم وضعه سوءاً وتؤثر على مستقبل الموظف، وذنوب هذا النوع من الظلم الذي يستمر سنين طويلة وقد يبقى مرافقاً لهذا الموظف وعائلته ومن يعيلهم حتى رحيله إلى قبره طيلة عمره، تبقى كما الذنوب الجارية المستمرة لمن ظلمه حتى بعد رحيله من الدنيا وتشهد عليه يوم القيامة وتهلكه، فالله يعفو عن ذنوب المسلم الذي تتعلق به، لكنه لا يسقط ولا يعفو عما بين الظالم ومن ظلمهم من عباده.