الرأي

بـروا آباءكـم

المسير



نسعد بنسائم «واحة البر بالوالدين»، ونسعد بوسائل البر بهما للوصول إلى المرتبة العليا عند الرحيم الرحمن، حتى نحقق النجاح والسعادة الحقيقية في حياتنا، وفي الآخرة بالظفر بأعلى المراتب في الجنان الخالدة. ولعل الدارس لسير السلف الصالح المليئة بالدروس والعظات وبخاصة في إطار بر الوالدين، ليكتفي بقراءة تلك المواقف المؤثرة التي تعطينا جرعات إيمانية خصبة توثق علاقتنا مع الله سبحانه وتعالى.
في حديث رواه البخاري ومسلم يخـبرنا رسول صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة رجال ممن كانوا قبلنا كانوا يسيرون، فأخذهم المطر فمالوا إلى غار فانحطت على فم غارهم صخـرة من الجبل، فتوسل كل واحد منهم إلى الله بأرجـى عملٍ صالح عمله ليخلصهم مما هم فيه. فقال أحدهم: «اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغـار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالديّ أسقيهما قبل الصبية، وإنه قد نأى بي الشجر يوما فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما فحلبت كما أحلب، فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون «يبكون» عند قدمي، فلم يزل دأبي ودأبهم حتى طلع الفجـر، فإن كنت تعـلم أني فعلت ذلك ابتغـاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء». فاستجاب الله دعاء هذا الرجل الصالح في وقتٍ من أحرج الأوقات فجعل له مخرجا ببره بوالديه.
كما ضرب لنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح أروع الأمثلة في البر بالوالدين والإحسان إليهما، ومن ذلك ما يروى أن الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنه كان له نخل بالمدينة، وكانت النخلة تبلغ نحو ألف دينار، وفى أحد الأيام اشتهت أمه الجمار، وهو الجزء الرطب في قلب النخلة، فقطع نخلة مثمرة ليطعمها جمارها، فلما سئل في ذلك قال: ليس شيء من الدنيا تطلبه أمي أقدر عليه إلا فعلته.
وهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرع. وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد أيشتكي شيئا؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. وهذا أبوالحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: «إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة»، فقال: «أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها».
وهذا حيوة بن شريح، وهو أحد أئمة المسلمين والعلماء المشهورين، يقعد في حلقته يعلم الناس ويأتيه الطلاب من كل مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: «قم يا حيوة فاعلف الدجاج»، فيقوم ويترك التعليم.
كما ضرب لنا السلف الصالح أروع الأمثل في البر بالوالدين. فقد روى البخاري في الأدب المفرد عن هشام بن عروة عن أبيه أو غيره أن أبا هريرة رضي الله عنه أبصر رجلين فقال أحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي. فقال: لا تسمه باسمه ولا تمش أمامه ولا تجلس قبله. وأخرج البخاري أيضاً عن سعيد بن أبي بردة قال: سمعت أبي يحدث أن ابن عمر شاهد رجلاً يمانياً يطوف بالبيت حاملاً أمه وراء ظهره يقول:
إنــــي لها بعيـــرهـــا المــذلــل
إن أذعـــرت ركابهــــا لم أذعــــر
ثم قال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا ولا بزفرة واحدة. «زفرة آلام المخاض». وكان ابن سيرين رحمه الله لا يكلم أمه بكل لسانه إجلالاً لها. وقيل لعمر بن ذر رحمه الله: كيف كان بر ابنك؟ قال: ما مشيت نهارا قط إلا مشى خلفي، ولا ليلاً إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحاً وأنا تحته. وهذا ظبيان بن علي الثوري -وكان من أبر الناس بأمه- وكان يسافر بها إلى مكة فإذا كان يوم حار حفر بئراً ثم جاء بنطع فصب فيه الماء ثم يقول لها: ادخلي تبردي في هذا الماء.
احرص على أن تكون قدوة لأبنائك في البر بالوالدين في كل معاملة تقوم بها، وذكرهم دائماً بأن طريقة برهم بك، ستكون بر أبنائهم بهم، فالجزاء من جنس العمل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم».. وذكرهم بأن يقولوا قبل منامهم: «هل أنتم راضون عنا يا أغلى الحبايب؟».
تفنن -رعاك الله- في برك بوالديك قبل أن تتمنى أن يعودا ولو للحظة واحدة للدنيا حتى تتنعم ببرهما، هم بركة الدنيا وبركة وقتك وحياتك ورزقك، فلا تبخل عليهما بوقت تجلسه في حضنهما الدافئ، ولا تبخل عليهما بوقت تمضيه كل يوم تتلذذ بالحديث معهما، فما أجمل تلك الأوقات الجميلة التي رحلت عن «دنياي» بلا عودة كنت فيهما معهما، كم أتمنى أن تعود ولو لفترة وجيزة، أتنعم بالخير الذي ذقته في حياتهما، ولكن سلواي أن يجمعني بهما المولى الكريم في جنات الفردوس والنعيم.