الرأي

الحسين شاهداً

الحسين شاهداً








«قتل الحسين».. تلك الصرخة التي شقت السماء وصدّعت الجبال، «وطئت خيل بني أمية صدره بحوافرها ومزقت الجسد، وامتشق الشمر سيفه وحز الرأس، وجابت الرأس الطريق من كربلاء إلى دمشق». طريق الخيام المحروقة والعويل والغربان والخيل المضرجة بالدم ما يزال مثخناً في ضمير التاريخ الذي لا أعرف لماذا يسمى «الإسلامي»!!. لماذا خرج الحسين بنفسه وأهله واصطحب معه الصبية والأطفال لمواجهة جيش أعجز الروم قهره؟ كيف تجرأ القوم على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف تركت جثثهم في الصحراء تعوي عليها الوحوش وتسفها الريح والرمال من كل جهة؟ إنها الأسئلة التي شقت التاريخ، وصدّعت وحدة الأمة.
«قتل الحسين» وبعثت الفتنة، وكما كان لعثمان بن عفان قميص يرفعه كل طالب دم، صار للحسين بن علي رأس تخرج كل عام تطلب الثأر. وفيما تنازل معاوية بن أبي سفيان عن ثأر ابن عمه عثمان مقابل الخلافة له ولعقبه من بعده، مازال أتباع الحسين، الذين انتقموا من قاتليه فرداً فرداً، يصرون على إكمال الثأر ممن ظلم آل البيت أولهم وآخرهم!!
«يالثارات الحسين».. ولكن من مَن؟ من بقي من قَتَلَة الحسين حياً؟ ومن يملك أن يهتدي لسلالة القتلة ويحاكم الورثة؟ وفي أي شرع تزر وازرة وزر جدتها؟ «قتل الحسين» وبقيت الثارات والرايات ذخيرة المظلومية التي تقاسمها من قتل مع الحسين وشرد أهله مع آل بيت الحسين، ومن عاش منعماً أبد الدهر لم يعرف الحسين ولم يمسه وهج اليوم القائظ الذي قتل فيه الحسين وحيداً عطشاً غريباً.
« لم أخرج بطراً ولا أشراً ولا مفسداً ولا ظالماً» هكذا نطق الحسين.
- لكنه خرج عن ولي أمره الذي بايعه المسلمون إلا ثلاثة أو أربعة!!.
- ومن قال إن الأمة يجمع على أمرها حتى الطفل الرضيع؟! فالطاعة لله ولرسوله ولولي أمر المسلمين، ومن شق عصا المسلمين فقد قرع ناقوس الفتنة!!. هل الحجج السابقة تبرير لقتل الحسين حفيد رسول الله؟.
- من زعم أن الحسين خرج طلباً للخلافة؟ متى كان آل بيت رسول الله طلاب سلطة وجامعي ثروة؟ أولئك رهط اصطفاهم الله لدعوة الناس وإصلاحهم؛ متى ما تسيدوا الناس واكتنزوا الذهب والدينار صاروا كبقية الخلق يختصمون معهم على المرعى وعلى الغنم. خرج الحسين كي يسمع رأيه ويبين حجته وينشر فكره، وليس كل صاحب رأي طامح للعرش.
سيقول آخرون: الرأي والجدل مع صاحب الولاية في دمشق، وليس مع دعاة الفرقة في كربلاء الذين دعوا الحسين لمناصرته بالآلاف، ولما وفد عليهم وأهله انفضوا عنه ولم يثبت منهم سوى العشرات.
لا أظن أن أمةً في تاريخها جادلت في مسألة كما جادل المسلمون في فتنة الحسين ما يقارب (1500) سنة. كيف كان حال الأمة لو أنها انقلبت على رأسها، الذي يبدو مقلوباً في هذه المسألة، وتجادلت وتحاورت في مستقبلها لما بعد (1500) عام. أظن أننا كنا سنتنافس على بناء المساجد والمستشفيات والمختبرات في كواكب المجموعة الشمسية التي سيحتاجها العلماء المسلمون أثناء جولاتهم الفضائية المتعددة!!
«قتل الحسين» مقولة طار بها واستثمرها اثنان، فريق أسس للثارات والمظلومية والسيطرة على الحكم بالنموذج الحوثي الذي مهدت له جماعة «الممهدون» الذين زعموا أن آخر الزمان سيخرج فيه (اليماني) من اليمن ليقتل (السفياني) في الحجاز تمهيداً لخروج المهدي وتأسيس جيشه، وفريق أسس لطاعة ولي الأمر وإن عصا وإن فجر، وحرم الخروج عنه ومناقشته وطرح الرأي أمامه، وقلّب الأحكام والفتاوى كلما تقلب ولي الأمر في فراشه مستأنساً بأحلامه.
لو أن قضية الحسين بن علي استثمرت حق استثمارها لغدت فلسفة إنسانية تنافس أطروحات جان جاك روسو، وجان بول سارتر، تتدارس فيها الكينونة والفعل والحرية والتصورات والممكنات ونواقص الكمال ورؤى الاكتمال. ولما خرجت علينا فرق تهدم القباب وتقتل المخالفين باسم محاربة البدعة والمبدعين، وفرق تطلب الحكم باسم آل البيت ومذهبهم.
سيخرج الحسين يوماً شاهداً على الذين تخاصموا واختصموا واقتتلوا فيه ومن أجله، سيخرج ويعلن أنه لم يطلب السلطة يوماً أو يطمع في ملك ليس له. وإنه لم يورث أحداً دمه أو دم أحد من أهله، وأنه لم يشرع لغيره التحدث باسمه وباسم ذريته، ولم يول أحداً السيادة من بعده. قتل الحسين شهيداً مخذولاً مستوحشاً في صحراء الهجير والتيه، وسيخرج شاهداً متبرئاً منتصراً تؤازره الجموع الغفيرة من كل عصر التي لم تخض في دمه ولم تقتسم غنائمه.