الرأي

رحيل قامة الشيخ أحمد الشيخ خلف آل عصفور

رؤى



ربما تعجز اللغة أن تقول ما نريد أن نقوله، فالرحيل أخرسنا والفقد أعيانا، ولكن هناك قامة شامخة لم تسقط، وأن كل ما يمكن أن يلعثمنا من الحزن، هناك ما يقابله من الحب المتدفق والأمل المشحون في دواخلنا، فرحيل جهبذ من طراز خاص، جهبذ من جهابذة الفكر الديني والإنساني المعتدل في الوطن العربي آلمنا على حد سواء، إنه رحيل العظيم والعزيز الكريم العلامة الشيخ أحمد بن خلف آل عصفور طيب الله ثراه.
حين تصفحت وجوه محبيه ممن كانوا أحرص الناس على حضور تشييع الفقيد الغالي إلى مثواه الأخير، رأيت هنالك الصغير والكبير، ورأيت الرجال والنساء، رأيت محبيه وربما مبغضيه، ورأيت الموالين والمعارضين. رأيت السياسي والمثقف والطبيب والمهندس والفلاح والفقير والغني والتاجر والرياضي والوزير والمسؤول الكبير والموظف الصغير. رأيت السني والشيعي والبهري والمسيحي وغيرهم من أصحاب الأعراق والأديان. رأيت المواطن والمقيم والأجنبي، ورأيت أهل البحرين بكل تلاوينهم وأطيافهم وأعراقهم ومشاربهم يمشون خلف جنازته بكل وقار ومهابة، مع القليل من الحزن والكثير من الفخر، فتيقنت حينها أن من كان يحمل على الأكتاف هو والد أبناء هذه الجزيرة المشبعة بالإنسانية.
كان مشهد التشييع المهيب مشحوناً بالعاطفة اللامتناهية، فالرحيل الأبوي للشيخ الجليل أعطى بعداً خامسا للقلب والفكر معاً، كما أن رحيله وحد أبناء هذا البلد في لحظة من الأمل والحب، لم تستطع كل قضايا الوطن أن توحدهم في مسيرة واحدة إلا عبر رايتك أيها الوالد العزيز الراحل.
إن رحيل الشيخ أحمد الشيخ خلف آل عصفور، يعد رحيل آخر قامات الفقه والمنبر والخطابة والوقار في البحرين، إن لم نقل في العالم الإسلامي، كيف لا، وهو رجل الاعتدال والاستقامة والاتزان، نعم إنه رجل المواقف الصعبة ورجل اللحظات الحاسمة، إنه الحكيم الذي استطاع أن يصمت وقت الفتن، وأن يقول رأيه في مواجهة موجات الانفعال والانفلات، حتى دفع ثمنها في أحلك الظروف والمناسبات، فكان وسطياً بما تحمله الكلمة من معنى، ولهذا لم ينل إعجاب المتطرفين جميعهم، على الرغم من قناعتهم برشد وعقلانية ونضج طرحه المتسم بالهدوء والرزانة، فكانوا يخالفونه في العلن ويتفقون معه في قرارة أنفسهم، ولربما اتضحت مواقفه المتميزة والعاقلة بعد حين من الزمان المرير، فبان صواب حكمته وانكشفت عيوب خصومه في الفكر والسياسة.
إن الحديث عن تاريخ الخطيب المفوه والرجل الموقر، الأديب العلامة الراحل، لا يمكن أن يدون في مقال صغير أو في كتاب كبير، بل يمكن كشف حقيقته عبر الكثير من المواقف العملية التي أثبت من خلالها مقدار وعيه وحنكته وغزارة ثقافته وإدراكه مجريات الأمور، فكان رجل المهمات الصعبة والمواقف المشرفة، فحفظ للدين هيبته، واحتضن أبناء الوطن بحكمته، وحين رحل من هذه الدنيا الزائفة، فإنه رحل بصمت المحاربين الكبار، لم يعشق الأضواء ولم يسحره وهجها الحارق.
رحمة الله عليك أيها الوالد الحنون، ففي رحيلك نستذكر أنك لم ترحل، لأنك تركت من ورائك من الأبناء والبنات ممن سيرفعون لك الهامة بعد مماتك، لأنهم ماضون وسيمضون على طريقك ومنهاجك القويم، كما سيكون لصدى صوتك رنة في أفق الوطن وضمير الإنسانية، فسلام عليك.