الرأي

ألم تكن بالأمس جالساً هنا..؟!

أبيض وأسود










كنت أظن قبل الآن أنني كتبت أصعب الأعمدة في مشواري، أو أن أقواها وأصعبها منع من النشر بفعل فاعل، وإذا بي أجد نفسي اليوم أمام أصعب عمود أكتبه في حياتي، ذلك أن هذا العمود يتعلق بقطعة من روحي، ورفيق عمري ومهجة خاطري.
أصبحت وكأني في بداية مشواري حين كنت أكتب وأمزق الورق، وأعود وأكتب من جديد، لكني اليوم أمسح الشاشة وأعود لأحاول أن أكتب من جديد.
لا أحب أبداً أن أكتب في أمور شخصية أو تخص حياتي، لكن رحيل حبيبي وشعلة حياتي الوالد الغالي عبدالوهاب بن يوسف بن خليفة الزياني، الخميس الماضي، كان من أقسى اللحظات التي مرت بعمري، ليس لأنه الوالد وحسب، بل لأن روحي معلقة به، ولأنه أنيس دربي، وطبيب جروحي، وفرحة عمري.
كانت حياتي مرتبطة به كثيراً، حتى أني حين أريد أن أتحدث مع أحد لضيق في نفسي فإنه يفهم أن هناك شيئاً ألم بي، فيتحدث معي ويعرج بالحديث هنا وهناك، حتى يخرجني مما أنا فيه بذكاء فطري وبروحه المرحة الجميلة.
هو رجل بسيط جداً عاش حياته وهو راضٍ عن نفسه، وراضٍ عن عمله، وراضٍ بما قسمه الله له، لا أذكر أنه أساء إلى أحد قط، ولا أعرف أن له أعداء أو خصوماً، والله أقول ذلك دون مبالغة، كل أبناء وأهل «الفريج» بالمحرق ومدينة عيسى يحبهم ويحبونه، وفي فريجنا بمدينة عيسى السنة والشيعة والعجم، كلهم يحبونه ويحبهم.
أكتب عن والدي اليوم وأمني النفس أن يرى كل منكم هذه السطور في والديه، فكل إنسان يحب والديه ويراهما أفضل الناس، هكذا هي الفطرة الإنسانية.
لم أعرف من أين أبدأ وأين أنتهي، أشعر أن الكلمات تتسرب مني، غير أن الوالد رحمة الله عليه هو صاحب الفضل علي بعد الله في أن أصبح كاتباً، فلم يعلمني أحد فن كتابة العمود الصحافي، لكنني تعلمت الكتابة من ولعي بالقراءة، وتمرسي على الكتابة في ذلك الوقت، فلدي دفاتر لم ينشر منها سطر، كلها كتبت في فترة المدرسة، ولم يدر بخلدي أني سأصبح كاتباً في يوم ما.
كان رحمه الله يشتري لنا كل يوم صحيفة أخبار الخليج، ولم تكن هناك صحيفة سواها في البحرين، وكان أيضاً يشتري لنا صحيفة (الخليج) الإماراتية، فقد كانت لها شعبية في البحرين، وكان يشتري لنا الصحف الكويتية القبس والوطن، خاصة أثناء الحرب العراقية الإيرانية.
وكنت أقرأ ما أشاء من الصحف، وأذهب أولاً للصفحة الرياضية بأخبار الخليج أبحث عن تحليل لمباريات نادي المحرق في الدوري العام، فلم يكن النقل التلفزيوني موجوداً، وبعدها كنت أتنقل بين صفحات الجريدة، وأول ما يلفت انتباهي كاريكاتير الفنان الكبير والأول بالبحرين الأستاذ عبدالله المحرقي -أطال الله في عمره وأبقى لنا ريشته الوطنية والفنية- وكنت مولعاً بقراءة أعمدة هامة بالصحيفة؛ وأذكر منها عمود (قوس قزح) للكاتب الذي لا يشق له غبار والذي لا يماثله أحد حافظ الشيخ صالح -أطال الله عمره- وأقرأ أيضاً للكاتبة الفاضلة طفلة الخليفة، وأقرأ للكاتب عقيل سوار، وإلى آخرين أخشى أن أنسى أحداً منهم.
كان رحمه الله يعلم أني أحب منتخب الأرجنتين ومارادونا، وما أن يشاهد مجلة عليها صورة مارادونا حتى يشتريها لي.
كل ولعي بالكتابة بسبب والدي، وكان يأتينا بمجلة العربي الكويتية كل شهر، وكان يشترى أيضاً مجلات (المصور) و(آخر ساعة) المصرية.
هناك تشكل جزءاً كبيراً من شخصيتي في الكتابة، فالوالد رحمه الله علمنا على القراءة وحبها، وحب الاطلاع، وأن نفهم ونقرأ ما خلف الصورة، وليس ما نشاهده أمامنا فقط.
قبل هذه المرحلة كانت مرحلة الطفولة، فبعد أن انتقلنا إلى مدينة عيسى من البيت العود بالمحرق في فريج المعاودة، كان الوالد يأخذني من بعد صلاة العصر مباشرة إلى بيت عمتي فاطمة -رحمها الله- حتى أذهب من هناك إلى بيت (المطوعة كلثم) تعلمنا نقرأ القرآن، وكانت لديها عصا طويلة تضرب بها المشاغبين ولا تبالي، حتى أنه كان هناك صبي مشاغب، فتأخذ رجله (وتحيشه) أي أنها تربط رجلاه بحبل وتضعهما على كرسي وهو مستلقٍ على الأرض، وتجعل الأولاد يمسكونه، وتضربه بالعصا في قاع رجله، حتى أنه لا يستطيع أن يمشي عليها.
هكذا كان يفعل الوالد رحمه الله، كان حريصاً على أن نتعلم، وحريصاً على أن نفهم ونقرأ، فلم يكل من أخذي من مدينة عيسى عصراً إلى المحرق كل يوم من أجل أن نجلس عند (المطوعة كلثم) تعلمنا قراءة القرآن.
أتذكر أني كنت مولعاً بكرة القدم في المرحلة الإعدادية والثانوية، وكنت ألعب بحرفية وحرفنة وكان الأصدقاء يأتوني وأنا في المدرسة صباحاً ويتفقون معي لألعب مع فريقهم عصراً، وكان الوالد لا يرضى أن أخرج عصراً لألعب الكرة، يريد أن أبقى لأراجع دروسي، لكني كنت أغلق باب حجرتي من الداخل وهي تطل على كراج السيارة، فأخرج من النافذة وأذهب لألعب الكرة، وأعود سريعاً قبل أذان المغرب خوفاً من والدي.
لدي من الذكريات مع الوالد ما يحتاج إلى كتاب، فقد كنت ألزمه هو والدتي حفظها الله ولم أفارقهما أبداً، حتى بعد الزواج، فقد كانا بفضل الله معي أينما ذهبت وانتقلت وأقدمهما على أي شيء سواهما ولله الحمد.
أجد نفسي مرغماً بالقفز بالذكريات، ففي فترة الأحداث التي مرت بالبحرين كان والدي يقول لي: «اثبت وابق على الحق، لا تخش شيئاً وأنت على الحق، هذي بلدنا ولازم اليوم نقول كلمتنا، واللي ما يوقف مع وطنه وقت الشدة ما فيه خير، ولا يستحق يعيش على هالأرض، اثبت وقف مع الحق ولا تخش في الله لومة لائم».
كانت الظروف صعبة، كان الأمن شبه معدوم، وكنا نخرج في التلفاز ونكتب بالصحافة، وكنت أعرف أن هناك من كان يكلم الوالد حتى يضغط عليه من أجل ألا أخرج في التلفاز، لكن موقفه ثابت رحمه الله كان يقول: «الريايل تطلع الحين، وأشباه الرجال تختفي الحين، قف مع بلدك واثبت، هذا وقتكم يا يبه وإذا ما وقفت مع ديرتك اليوم متى توقف».
كنت في ساعتها لا أخشى أمراً مادام والداي يرفعان يديهما بالدعاء لنا، هذا أهم شيء في الحياة.
قبل رمضان الماضي بخمسة أيام، كان الوالد خارجاً إلى صلاة الفجر، ورغم أنه يستطيع أن يقود السيارة، إلا أنه يخشى أن يعشى عليه النظر، فكان يذهب مشياً، والمسجد ليس قريباً، وأثناء ذلك تعب الوالد وجلس على الأرض جلوسه للصلاة وكان مستقبلاً القبلة بجوار الشارع، فشاهده المهندس هائل الوعري وهو من المصلين بمسجدنا، فذهب للوالد وحمله وأجلسه بالسيارة.
يقول المهندس إن ثيابه كانت مبللة من العرق، فقال للوالد سآخذك للمستشفى، والوالد يقول له «ودني المسيد لا تفوتنا الصلاة».
احتاج الوالد إلى عملية قلب مفتوح، وأجريت له العملية في ذات اليوم، وكانت عملية صعبة، لم يشتك الوالد قبل ذلك من قلبه.
ظل الوالد بالعناية القصوى قرابة الشهر ويبدو خلال تلك الفترة نقل إليه فايروس، وبعد ذلك نقل إلى الجناح، وهناك أصابت الوالد انتكاسة كبيرة بسبب فايروس، ضرب جهازه التنفسي، من بعدها أعيد إلى العناية القصوى وظل هناك شهران تقريباً، إلى أن اختار له رب العباد لقاءه، وكان في يوم التروية ليلة وقفة عرفات.
كان رحمه الله رجلاً بسيطاً جداً، كان همه هو المحافظة على الصلاة في وقتها، وكان يقيم السنن من الصلوات، وكثير التسبيح، وكان لديه دفاتر يسجل فيها كل يوم ماذا صلى، وماذا قرأ الإمام في صلاة الفجر من آيات، وكم تسبيحة أتم في اليوم، وكم ركعة قيام أتم، وكم ركعة صلاة ضحى صلى.
كان الوالد صاحب روح جميلة جداً وله قفشات وتعليقات تجعلك تضحك من قلبك، وكان يحب النكتة، لا تمل من الجلوس معه، يتحدث معك لأول مرة وكأنه يعرفك منذ زمن طويل، رجل شفاف، وروحه طيبة، لا يعرف الخبث أو التلون، لا يوجد لديه سوء ظن بأحد، وكان يحب أن يثني على الناس حين يرى منهم عملاً طيباً.
ذات مرة سمعت قهقهاته وأنا أهم بدخول البيت، وكأنه يضحك من قلبه، وحين دخلت وجدته يشاهد فيلم إسماعيل ياسين في الجيش، أو في الطيران، لا أذكر.
كان يملك ذاكرة جميلة، يتفقد المصلين في المسجد، ويسأل عن الغائب منهم، وما أن ينتهي من صلاة الفجر، حتى يقوم ويسلم على جميع المصلين الذين بالمسجد وهو أكبرهم سناً.
الأخ الدكتور النائب العام علي البوعينين يصلي معنا في المسجد، وكان يقول والدك علمنا التواضع، يسلم على كل من في المسجد كل يوم بعد صلاة الفجر.
أذكر أن هناك عامل نظافة يصلي معنا، وقد شكا للوالد يوماً أن والدته مريضة في بلده، وكان الوالد كلما رآه يسأله «إشلون ماما.. الحين أحسن؟».
أسعد لحظاتي كانت حين أخرج برفقة الوالد، كنت قبل أن أرتبط بوظيفة صباحية، مصاحباً له في مشاوير الصباح، فأذهب لأقضي ما يريد من حاجات، أو أذهب به إلى الحلاق، أو لنأخذ الأدوية من المستشفى، أو للسوق، وكان إذا ذهبنا إلى شراء الهامور يقول الوالد عطفاً على أسعار الهامور «هذي مو هامور هذي ذبيحة أعربي» وكنت أسعد كثيراً برفقته، وكنت أقول له دائماً: «يا يبه ترى والله صحبتك جنة».
كان رحمه الله يقرأ لي كل مقالاتي، حتى أنه أحياناً يقول لي: «يا يبه خف شوي، مقالك اليوم وايد قوي، والله أنا أحاتيك» وكنت أقول له الحافظ الله سبحانه، ومادام أنت والوالدة تدعوان لي، ما في خوف إن شاء الله.
لكنه يفاجئني بعد فترة ويقوم ويخرج من محفظته ورقة طويلة، ثم أكتشف أنه يحتفظ بمقالاتي التي قال لي إنها قوية بمحفظته، وكنت أقول له «يبه ما قلت إن المقال قوي؟».
فيقول: «اهو عاجبني وايد، بس أحاتيك يا يبه..!».
كان الوالد محباً لإخوته جاسم وخليفة رحمهما الله وعثمان أطال الله في عمره، وكان هو أصغرهم، وحين كنت آخذه لزيارة عمي عثمان بالمحرق يقول لي حين نعود: «يا يبه مشكور على أنك خليتني أجوف أخوي، وايد أستانس بزيارته».
حبي بذكريات جميلة وكبيرة مع الوالد وأنا الذي لازمته، وأذكر أنه حين يعود من صلاة الفجر، يطوف حول سيارة شقيقي الأصغر خالد، وكنت أحسبه يبحث عن شيء، وإذا به يقول لي، أدعو حق أخوك خالد أخاف عليه من الشوارع وأحاتيه وايد لين يطلع».
بعد صلاة الفجر أيضاً، يذهب ويلقي بالأرز (العيش) الذي زاد من وجبة الأمس، ويلقيه للطيور خارج البيت، وكان أيضاً يأخذ الخبز العربي والإفرنجي، ويضعه في الماء قبل أن يذهب لصلاة الفجر، وإذا عاد خلط الخبز بالماء، وقام بوضعه للطيور.
لم يفرق بين أبنائه وبناته، حتى وإن كان في قلبه شيء لأحدهم، إلا أنه يحبهم جميعاً، وكان يحب أخواتي كثيراً، ويحب أبنائهن، وإذا ما غابت عنه إحداهن كان يقول: «وينج يا بوج، ما جفناج من مدة، اطالع دربك».
الشيخ إبراهيم الحادي جزاه الله خيراً كتب خاطرة جميلة ومؤثرة جداً في رثاء الوالد، لكن ما غاب عن الشيخ إبراهيم أن الوالد كان قد صلى بالمسجد القديم في كل ركن فيه، وبعد أن تم تجديد المسجد الشمالي بمدينة عيسى، وصار باسم سبيكة الأنصاري أصبح المسجد كبيراً جداً، من أجل ذلك مازحه الشيخ إبراهيم قائلاً هل تستطيع يا بو هشام تصلي بالمسجد كله؟
فصلى به كله وهو يسع 4000 مصلي، وحين أتى إلى الرفاع فعل ذات الأمر ربما مرتين على ما أذكر، والمسجد أصغر من جامع سبيكة الأنصاري بكثير.
قبل رمضان من كل عام، كان العم جاسم بن عبدالرحمن الزياني أطال الله في عمره وجزاه الله خيراً يعطي الوالد جزءاً من الزكاة ليوزعها على أهلها في مدينة عيسى، وكنت أذهب معه، وكان حريصاً على أن ينزل عند كل بيت ليسلم الزكاة بيده إلى الناس، وكان يقول «يا يبه حط بالك على البيوت عشان تدلهم بروحك».
ذات مرة شكا من تعب في ركبته، فأخذته إلى الطبيب، وفي عودتنا قال لي: «يا يبه أنا أحاتي أن الدكتور يجبرني أجلس على كرسي للصلاة، وأنا أريد أن أسجد لله، ولا أريد أن أحرم ذلك، وقد أعطاه الله ذلك، حتى اختاره له، فلم يحتج للجلوس على الكرسي للصلاة، وكان رحمه الله يطيل السجود لله.
من كان يظن أن النجاح يتحقق من دون بر الوالدين فهو واهم، والله الذي لا إله غيره أن كل التوفيق وكل النجاح في بر الوالدين، لا يظن أحد أنه متميز وأنه هو الذي صنع نفسه بنفسه، فمن يعتد بنفسه سيسقط يوماً.
النجاح كله في بر الوالدين، وما تحقق لي أي نجاح أو توفيق، فإنه بدعاء الوالد والوالدة حفظها الله، هنا هو النجاح الحقيقي، من كان له والدان فليلزمهما، ويجتهد في برهما، أبواب الجنة عند أقدامهما.
مرت بي عواصف كثيرة، وقد حفظنا الله بحفظه بسبب دعاء الوالدين، هذه رسالتي للجميع، النجاح في الدنيا والآخرة في بر الوالدين، وأنا أعرف وأدرك أني مقصر معهما مهما فعلت وأدعو ربي أن يغفر لي تقصيري، لكن الإنسان يجتهد.
ذات مرة وقبل شهرين من مرضه كنا عائدين من صلاة المغرب، فأخذ الوالد يتحدث بشكل غريب جداً، كلامه وقع في قلبي، فقد أخذ يتذكر من رحل من أحبابه، ثم أخذ يقول هذه الدنيا قصيرة، مهما طال العمر، فإننا راحلون، كلامه هذا أخافني كثيراً، صرت متوجساً مما أظن وأحاذر.
عدنا إلى البيت، أوقفت السيارة، خرج والدي، وخرجت له، وقبلت رأسه ويده، وضممته إلي بقوة، قلت له: «يا يبه سامحني إن قصرت في حقك في يوم، سامحني يا يبه» كنت في حال لا يعلمها إلا الله.
فرد علي حبيبي روحي فقال: «يشهد الله إنك بار فينا... يشهد الله إنك بار فينا».
إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا شيخ الرجال لمحزونون.
الحمد لله على لطفه ورحمة، وإننا راضون بقضاء الله وقدره، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا سبحانه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
** سأغيب فترة عن الكتابة، على أن أعود مجدداً بإذن الله في وقت لاحق