الرأي

أعط وانس ما أعطيت

بنادر

دائماً ما أتصور أن العطاء بين الإنسان والآخر، يشبه بالضبط علاقة البذرة بالتربة، فأنت ما أن تعطي أحد ما، أي شيء، ابتسامة، كسرة خبز، كلمة مشجعة، محبة بدون شروط، دعم مالي بسيط، كأنما تضع البذرة في تربة صالحة، اروها بالماء، العطاء، واتركها، ربما أقول «أنساها»، وستخرج وحدها في يوم من أيام هذا العالم، وستفاجأ بأن تلك البذرة التي تكاد لا تساوي شيئاً، تافهة، صغيرة، أصبحت هذه الشجرة الوارفة الظلال والثمر.
الحياة كلها تسير ضمن هذا القانون الإلهي أو الكوني أو الطبيعي، سمه ما شئت، هو التبادل الطاقوي، أو تبادل الطاقات وإكمال بعضها الآخر. في دورة لا تنتهي. لن تأخذ شيئاً دون أن تعطي، لن تحصل إلا على ما تزرع، لن تكون إنساناً صالحاً إلا بعد إصلاح ما فيك وما حولك.
هذا يدعوني لطرح أحد الحكايات التي أحتفظ بها في ملفاتي، والتي تحاول أن توصل إلى الآخرين حكمة السابقين من أصحاب التجارب والحكماء، الذين مروا قبلنا على هذا الكوكب، النعمة في معنى العطاء الإنساني.
حكي أن شيخاً عالماً كان يمشي مع أحد تلاميذه بين الحقول، وأثناء سيرهما شاهدا حذاء قديماً اعتقدا أنه لرجل فقير يعمل في أحد الحقول القريبـة والذي سينهي عمله بعد قليل ويأتي لأخذه.
فقال التلميذ لشيخه: «ما رأيك يا شيخنا لو نمازح هذا العامل ونقوم بإخفاء حذائه وعندما يأتي ليلبسه يجده مفقوداً فنرى كيف سيكون وتصرفه!».
فأجابه العالم الجليل: «يجب أن لا نسلي أنفسنا بأحزان الآخرين ولكن أنت يا بني غني ويمكن أن تجلب السعادة لنفسك ولذلك الفقير بأن تقوم بوضع قطع نقدية بداخل حذائه وتختبئ كي تشاهد مدى تأثير ذلك عليه!!».
أعجب التلميذ بالاقتراح وقام بوضع قطع نقدية في حذاء ذلك العامل ثم اختبأ هو وشيخه خلف الشجيرات، ليرى كل منهما ردة فعل ذلك على العامل الفقير.
وبعد دقائق جاء عامل فقير رث الثياب، بعد أن أنهى عمله في تلك المزرعة ليأخذ حذاءه، وإذا به تفاجأ عندما وضع رجله بداخل الحذاء بأن هنالك شيئاً ما بداخله وعندما أخرج ذلك الشيء وجده «نقوداً»!!
وقام بفعل الشيء نفسه في الحذاء الآخر ووجد نقوداً أيضاً!!
نظر ملياً إلى النقود وكرر النظر ليتأكد من أنه لا يحلم.
بعدها نظر حوله بكل الاتجاهات ولم يجد أحداً حوله!!
وضع النقود في جيبه وخر على ركبتيه ونظر إلى السماء باكياً ثم أخذ يناجي ربـه:
«أشكرك يا رب يا من علمت أن زوجتي مريضة وأولادي جياع لا يجدون الخبز، فأنقذتني وأولادي من الهلاك»، واستمر يبكي طويلاً ناظراً إلى السماء شاكراً هذه المنحة الربانية الكريمة.
تأثر التلميذ كثيراً وامتلأت عيناه بالدموع، عندها قال الشيخ الجليل: «ألست الآن أكثر سعادة مما لو فعلت اقتراحك الأول وخبأت الحذاء؟ أجاب التلميذ: «لقد تعلمت درساً لن أنساه ما حييت، الآن فهمت معنى كلمات لم أكن أفهمها في حياتي، عندما تعطي ستكون أكثر سعادةً من أن تأخذ».
فقال له شيخه: «لتعلم يا بني أن العطاء أنـواع:
- العفو عند المقـدرة عطـاء.
- الدعاء لأخيك بظهر الغيب عطـاء.
- التماس العذر له وصرف ظن السوء به عطـاء.
- الكف عن عرض أخيك في غيبته عطاء.
هل عرفنا الآن لماذا يكون صاحب العطاء أكثر فرحاً من الذي تلقى العطاء. صاحبه يشعر أنه قام بالدور الذي خلق من أجله. صاحب ليس هو مالك المال، إنه القناة التي تساهم في إيصال المال، وكل ما هو خير إلى المحتاجين إليه. إن حصلت على أي مجال للعطاء، لا تفكر أبداً. قم بالعطاء دون الالتفات إلى شيء آخر. افعل العطاء. افعله فقط.