الرأي

قرود الحكمة

بنادر

يعتبر القرد بالنسبة للصينيين من أكثر الحيوانات حكمة، لذلك ربطوه في الكثير من معتقداتهم، وأكسبوه مكانة تقترب من تقديسهم للحكماء الذين يؤمنون بأفكارهم وآرائهم وسلوكهم.
وأتصور أننا جميعاً كقراء ومتابعين لما يدور في العالم، شاهدنا أو سمعنا عن القرود الثلاثة، والتي طرحت تحت شعارات (لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم).
في الواقع عندما كنت في حداثة سني، ونتاجاً لتربيتي السياسية التي تعلمتها من حركات الشارع، كنت أعتبر هذه الحكمة لا تصلح للعصر الذي نعيش وقادمة من مخلفات المجتمع الإقطاعي الصيني. وكنت أسخر منها، بالطبع عبر أبناء جيلي المزحومين بالعمل السياسي اليومي والنظرة المادية لكل ما هو في الحياة، واعتبرتها في تلك أنها ضد حرية الإنسان في قراءة كل ما يريد قراءته وضد الاستماع إلى الرأي المختلف أو وجهة النظر المعارضة، والأكثر من هذا ضد حرية التعبير.
بعد أن كبرت وعرفت شيئاً عن الديانات الوضعية؛ البوذية والهندوسية والطاوية وغيرها، شعرت أني كنت فهم الحقيقي لهذه المقولة العظيمة والحكمة الغاية في البلاغة.
ومن خلال القراءة عرفت أن هذه القرود الثلاثة تمثل الحكمة والمبدأ (لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم)، وأول هذه القرود يدعى ميزارو (Mizaru) الذي يغطي عينيه ويرمز إلى مبدأ (لا أرى الشر) ، والثاني يدعى كيكازارو (kikazaru) الذي يغطي أذنيه ويرمز إلى مبدأ (لا أسمع الشر)، والثالث يدعى ايوازارو (Iwazaru) الذي يغطي فمه ويرمز إلى مبدأ (لا أتكلم الشر).
وفي بعض الأحيان يكون هناك قرد رابع مع الثلاثة يدعى شيزارو (shizaru) يرمز لمبدأ (لا أفعل الشر ) ويعبر عن ذلك بيديه.
الحكمة «لا أسمع لا أرى لا أتكلم»؛ لا للغيبة والنميمة، لا نتتبع عورات الناس، لا نتكلم إلا بخير أو نصمت.
قرود الحكمة ثلاثة؛ الأول يضع يده على عينيه وتعني لا أرى شرّ، الثاني يضع يده على أذنيه وتعني لا أسمع شرّ، الثالث يضع يده على فمه وتعني لا أتكلم شر.
أتصور الآن، أنه إذا وصل الإنسان إلى فهم المعنى العميق من وراء هذه المقولة لاستطاع أن يعيش سعيداً، بعيداً عن توتر الضغوطات الحياتية التي تفرض نفسها على كل من يحاول أن يواصل حياته بأمن وسلام.
إنك إذا تعلمت الصمت، حتى في المقام الذي يستدعي الكلام، فصمتك هذا أكثر قوة من الكلام الذي سوف تقول، فالشر إن قاومته يودي بك إلى الهلاك، وإذا تعلمت غض النظر عما تراه لسوف تربح إمكانية النظر إلى داخلك، وهو أكثر سعة من المشهد الخارجي، وإذا فهمت معنى ألا تسمع ما يطلق من كلمات وشعارات وهتافات وغيرها، ستكون قادراً إلى الإصغاء للأحاديث الجوانية القادرة على إعادة وعيك لذاتك.
الآن أرى أن الوقت قد حان للنظر إلى إعادة قراءة ما كنا نعتبره سلبياً، وهو في واقعه أكثر إيجابية من كل الأطروحات التي نسمعها في الصحافة والإذاعة والتلفزيون وما تنشره أدوات التواصل الاجتماعي.
هل نفعل ذلك؟ هذا ما أطمح إليه.